جاليريرحلات

أطلس الحرف اليدوية في مصر: رحلة عبر الزمن والتراث

إعداد: طريق الحرير اليوم

صفحات الأطلس

في عالم تتسارع فيه الحداثة، وتتوارى فيه بعض الحرف التقليدية تحت وطأة التغيرات الاقتصادية والاجتماعية، يبرز مشروع الباحث المصري أسامة غزالي كجسر يربط الماضي بالحاضر، ويوثق تراثًا مهددًا بالاندثار. مشروعه “أطلس إرشادي للحرف اليدوية بمصر” ليس مجرد منصة رقمية، بل هو نافذة تُفتح على تاريخ طويل من الإبداع البشري، حيث تتشابك الحكايات مع الخامات، وتتداخل الأيدي الماهرة مع البيئة لتصنع إرثًا ثقافيًا فريدًا.

اكتشاف الذات عبر الحرفة

يقول الرحالة المصري أشرف أبو اليزيد في كتابه نهر على سفر، “حين يسافر المرء لا يكتشف البشر، ولا يستكشف الأمكنة، بل يعيد اكتشاف ذاته”. هذه الفلسفة تنطبق تمامًا على رحلة أسامة غزالي، الذي لم يكتفِ بأن يكون باحثًا في مجال البيئة والتراث، بل أصبح سفيرًا للحرف التقليدية، موثقًا إياها، ومنحها بعدًا جديدًا عبر منصته الرقمية.

منذ طفولته في قرية كوم الضبع بمحافظة قنا، نشأ أسامة غزالي في بيئة غنية بالتراث الطبيعي والثقافي. عشق التجوال بين القرى، ورسم النباتات والحيوانات، وتوثيق أسماءها، ما شكّل لديه وعيًا مبكرًا بأهمية هذا التراث. هذا الشغف دفعه لدراسة علم النبات والبيئة، ثم العمل في محمية جبل علبة، حيث انغمس في مجتمعات البشارية والعبابدة، مكتشفًا كيف أن التراث الطبيعي والثقافي يشكلان نسيجًا متكاملًا يحدد هوية الإنسان.

أطلس رقمي يعيد إحياء الحرف التقليدية

يأتي مشروع “أطلس إرشادي للحرف اليدوية بمصر” كمحاولة لإعادة الاعتبار لهذه المهن، من خلال توثيقها رقميًا، وعرض تفاصيلها عبر منصة تفاعلية تتيح للباحثين والمهتمين الوصول إلى معلومات دقيقة عن مختلف الصناعات التقليدية.

ينقسم الأطلس إلى عدة أقسام تغطي مجموعة واسعة من الحرف، بدءًا من الصناعات الجلدية، مرورًا بالحرف النسيجية، ووصولًا إلى أعمال الزجاج والخشب والمعادن. على سبيل المثال، نجد ضمن قسم الجلود مجموعة من الحرف التي تعكس براعة المصريين في استغلال هذا المورد الطبيعي، مثل:

  • حقائب جلود الماعز بالخيط اليدوي في الشلاتين.

  • أساور الجلد العبادية في مرسى علم والشلاتين.

  • صناعة الدرقة الدفاعية، وهي حرفة نادرة كانت تُمارس في الصحراء الشرقية، حيث تُصنع الدروع من جلود الجمال والفيلة قديمًا.

  • جراب الأسلحة التقليدي، الذي كان يُصنع في الصعيد والقاهرة لحفظ الطلقات والخناجر، لكنه أصبح من الحرف المندثرة.

  • الأحذية الملونة المطرزة في واحة سيوة، والتي كانت من أشهر الصناعات التراثية في الساحل الغربي لمصر.

وبالإضافة إلى الحرف الجلدية، يسلط الأطلس الضوء على صناعة الحصير، تلك الحرفة التي اعتمدت على نبات الحلفا، المعروف أيضًا باسم “ذيل القط”. هذا النبات الذي ينمو بغزارة على المصارف المائية كان يشكل عنصرًا أساسيًا في الحياة المصرية القديمة، حيث استُخدم في صناعة الحصير الذي لم يخلُ منه بيت أو مسجد أو كنيسة في القرى المصرية.

ما بين الحداثة والاندثار: معركة الحرفيين مع الزمن

تعكس هذه التقاليد الحرفية كيف استطاع المصريون على مدار العصور دمج الموارد الطبيعية مع الاحتياجات اليومية، لكن مع تغير أنماط الحياة، بدأ العديد من هذه الحرف في الاختفاء. تراجعت صناعة الحصير، وانحسرت ورش صناعة الجلود الملونة، وأصبح من النادر العثور على حرفي قادر على صناعة جراب السيف التقليدي أو الدرقة الدفاعية.

لكن أسامة غزالي لا يقف عند مجرد التوثيق، بل يسعى لإعادة هذه الحرف إلى الحياة عبر مشاريع مجتمعية تدعم الحرفيين، وتُعرّف الأجيال الجديدة بقيمة هذا التراث. يهدف الأطلس إلى أن يكون مصدرًا للمعرفة، ومنصة لدعم الصناعات التقليدية، من خلال إتاحة المعلومات، وربط الحرفيين بالمهتمين والمستثمرين.

رؤية نحو المستقبل: بين التوثيق والإحياء

حصل أسامة غزالي على العديد من الجوائز والتكريمات لدوره في حفظ التراث، من بينها زمالة “أشوكا” كإبداعي اجتماعي في مصر، وجائزة التأثير الاجتماعي للمصريين والعرب في المملكة المتحدة. لكنه لا يعتبر أن هذه الإنجازات هي نهاية الرحلة، بل مجرد خطوة في طريق طويل يهدف إلى الحفاظ على التراث المصري.

في النهاية، يمكننا القول إن “أطلس إرشادي للحرف اليدوية بمصر” هو أكثر من مجرد مشروع رقمي؛ إنه محاولة لإعادة اكتشاف الهوية المصرية، وربط الماضي بالحاضر، وتقديم نموذج يُحتذى به في كيفية حماية التراث من الاندثار. وبينما تندثر بعض الحرف، يظل هناك أمل بأن تعود مجددًا، مستمدةً قوتها من ذاكرة الأجيال التي لا تزال تحمل في داخلها عشقًا للتراث وجمالياته.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى