
نجيب محفوظ السَّاردُ والتَّشْكيلي موضوع هذا اللقاء الذي بثته شاشة قناة النيل الثقافية والتقط فيه مؤلف الكتاب أشرف أبو اليزيد
من مقدمة المؤلف:
لسنا نبالغ حين نستهل سطور هذا الكتاب / الألبوم بالتأكيد على دور استثنائي أدَّاهُ الروائي الكبير نجيب محفوظ فأثر به في الثقافة العربية المعاصرة، وهو دورٌ تخطى حدود فن السَّرد الأدبي إلى فضاءات الفنون التي تماست معه. وإذا كانت السينما أهم تلك الفنون، وأشهرها، فإننا نخص بكتابتنا فنا آخر، هو التشكيل، الذي نعتقد أنه لم يكن أقل تأثرا بأدب هذا السَّارد الفذ. ولا نقصُر الحديث على التشكيل بحدود التصوير الكلاسيكي، وإنما ـ كذلك ـ ننطلق إلى تلك الفنون الأخرى المرتبطة به، والدائرة في فلكه، مثل الحفر والرسم والكاريكاتير والشرائط المصورة (Comics) والنحت، وصولا إلى صناعة الكتب، وتصميم أغلفتها، وملصقات الأعمال الفنية والفعاليات الثقافية، بل والرسوم الجدارية (Grafitti).
اللقاء بثته قناة النيل الثقافية، ببرنامج (من زاوية أخرى)، عن كتاب أشرف أبو اليزيد (نجيب محفوظ. السارد والتشكيلي)، الذي صدر بالعربية، والإنجليزية والصربية
يقول أشرف أبو اليزيد : كانت بذرة هذا الكتاب مقالة نشرتُها في ديسمبر من العام 2006، رأيت فيها أن أبحث عن مساحة لم يتطرق إليها النقد في دراسة أعمال الأديب الكبير، لذا بدت لي باحة الفن هي الأرحب، والأجدر بالتفاتة عميقة، شكلت منذ ذلك الوقت تحولا كبيرا في رؤيتي لعالم نجيب محفوظ الروائي، إذ أن البحث اللاحق لم يكمل ما بدأتُ وحسب، بل وأضاف زوايا جديدة، لا تزال تتناسل، بما جعلني أدرك عِظَمَ التأثير الذي أودعه هذا الكاتب الكبير في الفنون جميعا. وإذا كانت تلك المقالة، التي حملت عنوان “رسامو عالم نجيب محفوظ”، قد غرست الفكرة الأولى، فإن علاقة الأديب بأحد عناصر التشكيل نكتشفها في روايته المبكرة “رادوبيس” حين قدم محفوظ لنا الصبي الفنان المصري القديم “بنامون” رسام جدران الحجرة الصيفية من مقبرة الأميرة “رادوبيس”. وتؤكد تلك الرواية عناية الكاتب بتقديم رسم المقابر فنا متخصصا، بخطواته، وتقدير رساميه، بشرًا لهم مواهب وقدرات، حتى أن ذلك الفنان الصغير يصبح عشيق الأميرة الساحرة. كما كان اهتمام محفوظ اللافت بالفن صفة كامنة حاضرة لدى كاتبنا، يبثها رواياته، من حين لآخر. بل إن ارتباطه بالفنانين حوله، مصورين، وسينمائيين، حتى في دائرته القريبة ضمن أصدقائه الحرافيش، وعمله المرتبط بالسينما، وأبطالها، وبطلاتها وكتابها، ومخرجيها، جعل الفن جزءا ركينا من نسق رؤيته للعالم، فلا بد أن يحضر الفنان في أعماله الروائية، أيا كان الفن الذي يمارسه. يرصد الناقد مصطفى بيومي في إحدى دراساته مثل هذا الحضور للفن السينمائي. فالسينما عند الراوي / الطفل في “المرايا” نموذجا، هي جزء أصيل من ذكريات الطفولة، كما أن أعضاء شلة “قشتمر” متعلقون بالسينما لا يتغير أو يفتر تعلقهم بها مع انتقالهم من الطفولة إلى المراهقة وعتبات الشباب، ودخول السينما في “بداية ونهاية” طقس بين المحبين والمخطوبين، حتى أن أشخاصا سينمائيين عاصرهم نجيب محفوظ نقلهم من واقعه إلى كتاباته، مثل المنتج السينمائي في “دنيا الله” والمصور السينمائي في “الحب تحت المطر”، ونقاد الفن في “الشحاذ” والصحفي الفني في “ثرثرة على النيل”، والمخرج في قصة “زينة” ورواية “الحب تحت المطر”، والممثلات والممثلين في “بداية ونهاية” و”ميرامار” و”المرايا”، وغيرها، وهؤلاء في هذه الأدوار جميعا يقدمون زوايا رؤية نجيب محفوظ لعالم السينما، والتي لم تكن في معظمها ذات نظرة إيجابية، ولعل لهذا الرأي علاقة وطيدة بعمله هو نفسه في السينما، كاتبا للسيناريو ورقيبا. ونترك السينما لنكتشف أن علاقة الأديب نفسه بالفن التشكيلي، بالذات، كانت مثار تساؤل في مقالة قصيرة للناقد والفنان التشكيلي الراحل محمود بقشيش، نشرها في مجلة الهلال بعد أيام من فوز نجيب محفوظ بجائزة نوبل للآداب بعنوان (نجيب محفوظ والفن التشكيلي)، يستدعي فيها لقاءً ضمه بأديب نوبل قبل أكثر من ربع قرن (أي أوائل الستينيات من القرن الماضي) حين كان بقشيش وقتها طالبا في السنة النهائية في كلية الفنون الجميلة، مدعوا إلى برنامج إذاعي عنوانه “كاتب وثلاثة قراء”، كقاريء مع زهير الشايب (مترجم كتاب وصف مصر)، والقاص محمد جاد، حول رواية “زقاق المدق”، وكان عليه، كالآخرَيْن، أن يتوجه للكاتب الكبير باستفسارين لا ثالث لهما … لضيق الوقت! حين جاء دور بقشيش ليتحدث، أشار الناقد والفنان الشاب عن ميل محفوظ إلى التكوين المعماري المجسم، ليس فقط في أشكال البيوت والمقاهي والأزقة، بل وفي أشكال البشر، وعلاقاتهم بالأماكن التي يحيون فيها، فالمكان عنده ـ رغم وضوح معالمه ـ لا يقوم بدور خشبة المسرح؛ أي لا يكتفي باستضافة فريق يقدم احتفالا وقتيا، بل على العكس شغل المكان حيز بطل من أبطال العمل الدرامي، يقول بقشيش: ”في رسومه المكتوبة عن عمائر الأزقة والحواري تختفي ـ أو تكاد ـ الألوان الصداحة، وألوان عماراته، وملابس أبطاله تتجه أكثر إلى الوقار الرمادي! وأزعم الآن إنه اكتشف في لون مدينته القاهرة مالم ينتبه إليه كبار الفنانين التأثيريين أمثال يوسف كامل، وكامل مصطفى، فقد صوروا القاهرة غارقة في الألوان الصداحة، بينما هي في حقيقتها غارقة في رماديات أتربة المقطم! … والمدهش حقا عند نجيب محفوظ هو ترجيحه الكتلة على اللون، إن ميله إلى التركيب والبناء المجسم يخفض ـ بطبيعته ـ من البوح الخطابي، ويهذب التعبير المكتوب”.