

أنا الملكة الإلهية لمصر، كليوباترا. أتعلم فن الحكم من أخطاء والدي بطليموس، الذي فشل في الحفاظ على سلطته على جزيرة قبرص ضمن الإمبراطورية الرومانية. أختي غير الشقيقة، بياتريكس، كانت السبب في هلاك والدنا بجشعها الذي لا يُروى نحو السلطة.
يُقال إن الدم الملكي الإلهي لا بد أن يُحفظ في وعاء واحد، لا أن يُنثر في العالم. زوجي هو شقيقي من الأب، بطليموس التالي. كان طفلًا في التاسعة، بطباع سيئة، مدللة، وحتى بغيضة بالكامل. نسخة مطابقة لأخته بياتريكس التي أجبرتنا على الفرار من قبرص حفاظًا على حياتنا. ومع ذلك، أشعر بالامتنان لها، فلولاها لكنت ما زلت أعيش هناك في الظل، كابنة غير شرعية لبطليموس.
نسي الناس والدنا بمرور السنوات، ولكنت بقيت مجرد ابنة لجارية مجهولة. لم أعرف أمي أبدًا، فقد كانت من العامة، لا يُسمح لها حتى بلمسي بعد ولادتي. فرحت فقط بأنني سأكون يومًا ما أماً لأطفالي بنفسي.
وادي النيل الخصيب أغناني يومًا بعد يوم، فقد آمنت بآلهة مصر، وخنت بذلك إلهتي القديمة أفروديت. كنت أحكم بثقة، لا أُفوّض أحدًا بصلاحيات كبيرة. كان كثيرون يقولون عني إنني قاسية. لكن، ما القسوة في الرغبة بالنجاة؟ إنها وسيلة، وسلاح في ساحة المعركة.
أختي بياتريكس مثال صارخ، ابنة أطاحت بأبيها وقتلته، وحرمتني من السند. ورغم أنه كان حاكمًا، إلا أن والدي بطليموس أحبني، كنت أشعر بحنانه خلف دروعه الحديدية. كنت أحب سماعه وهو يعزف على الناي، كانت أنغامه تأخذني إلى معابد أفروديت. لكن بياتريكس جففت تلك الأمواج بلحظة واحدة، وألقت بي في دوامة النجاة وقرارات المصير.
كبر بطليموس خلال سنوات حكمي، وبدأ يطمع في السلطة، رافضًا أن يشاركني إياها. دبر تمردًا، واضطررت للفرار مجددًا، هذه المرة إلى سوريا تحت شمس الإله رع الحارقة.
اسمرت بشرتي، واكتسبت لون البرونز. غيرتني الآلهة الجديدة، وابتعدت أكثر عن معبودة الرخام الأبيض، أفروديت. كانت سوريا بالنسبة لي جحيمًا، كأن أنوبيس الدموي فتح أبواب الجحيم أمامي لأتأملها.
تذكرت والدي وأدركت صعوبة موقعه. لكنني تعلمت من أخطائه، ورفضت أن أُسلم نفسي للموت. عقدت العزم على أن أكون شمسًا، تشرق من جديد، وتفوق الإله رع سطوعًا.
جمعت جيشًا في خيمة حربي، صرت إلهة مارس في جسد امرأة. قالوا لي إنني لا أستحق الحكم لأني لا أعيش تحت وصاية الخصيان. أجل، قد طردتهم عندما صرت امرأة، فلم أحب وجودهم حولي. أعشق الرجال، ولا يليق بملكة مصر الإلهية أن تعيش بينهم. كنت أدعوهم فقط ليسردوا لي أخبار حروب الغال، وانتصارات بومبي وكراسوس.
أتى بومبي إلى خيمتي في لحظة مصيرية. طلب مساعدتي، دون أن يعلم أنني هاربة. قررت أن أهبه جيشي لمحاربة قيصر، بدلًا من مقاتلة أخي وزوجي المتمرد. إن انتصر، سيساعدني مجلس الشيوخ على استعادة عرشي.
لكن، خاب ظن بومبي. وقفت مع قيصر، ووجدت نفسي مشتعلة بمشاعر جديدة وعميقة قلبت حياتي. استحممت بالحليب والعسل، وعطرتني الجواري بالخشب العطري. تزينت بالجواهر، صُفف شعري على أربع طبقات، وكُحّلت عيناي بثلاثة ألوان.
ارتديت ثوبًا مصريًا شفافًا فاخرًا، ثم وضعتني جواريّ في كيس ضخم، وحملني خادمي المخلص أبولودور الصقلي إلى غرف قيصر، تحت جنح الظلام.
ذهل قيصر من طلتي، وقد خرجت من كيس كأنني هبة من الآلهة. كانت مجوهراتي تتلألأ في وهج الشموع. كنت نارًا وحبًا في آنٍ واحد، ولهيب الحب اشتعل فينا معًا. كنت في العشرين من عمري، عرفت رجالًا كثرًا، لكنني أحببت لأول مرة.
أبحرنا في النيل، على سفن من ذهب. كنت أمنحه الألغاز، وهو يحاول حلّها. قلت له: “أين منبع النيل؟” فأجاب: “لأعطيت العالم كله لأعرف“. لكنه لم يعلم أنني، كليوباترا، أنا منبع كل شيء.

اتهموني في روما بالسحر، قالوا إنني سلبت القيصر، وإنني أغوي التاريخ نفسه.
وفي سفينتي، عشنا شهرين من الحب والسحر والاستكشاف. أريته عظمة مصر، حضارتها، معابدها، وسحرها.
وعندما غادر إلى روما، وعدني أن يعيد لي عرشي. ترك معي جيشًا قوامه اثنا عشر ألفًا.
أُحرق الإسكندرية، وغرق شقيقي في النيل. ربما كانت العدالة الإلهية. عدت إلى العرش، كليوباترا جديدة، حاكمة مصر العليا والسفلى.
تزوجت من أخي الآخر، رغم جهله حتى بلغتنا. كنت أتقن ثمانية، منها اللاتينية. استخدمت العلم والسموم كسلاح أنثوي لحماية نفسي.
لا يكفي السكاراب (خنفساء العجل المقدس) وحده للسلطة، فلا بد أن أحمل السم تحته. كانوا يسمعونني وهم يضمرون رغبتي في الموت.
أحببت الزمرد، رغم تقاليدهم في حب الفيروز.
سألت قيصر مرة: “هل كنت ستسعد بالموت من أجلي؟” فقال ببرودة القائد: “لا“. لكنه كاد يموت لإنقاذي، وكان ذلك جوابًا أبلغ.
عندما علمت بحملي، عرفت أن في أحشائي ثمرة حب. قلت له: “أحبني فقط، فكلماتك لا تهم“، فاستدعى جاريتي وقال لها: “سأقطع رأسك!” ارتعدت وبكت.
ثم قال لي: “هل رأيت؟ لم ألمسها، لكن الكلمات مهمة. وإن قلت إني أحبك، فصدقيني“.
تذكرت ذلك الدرس دومًا. ثم أعدمت الجارية. كانت ضعيفة في تجربة خطيرة.
أن أكون كليوباترا، الملكة الإلهية، أمرٌ عسير. لكن أن أكون امرأة، فهذا أصعب بما لا يُقاس.
ابني قيصرون وُلد في موعده. لقد أصبح قيصريًّا الخاص، حتى وإن لم يعترف به حبيبي، القائد العظيم قيصر. أما أنا، فكنت في ذروة النشوة. صار لديّ الآن قيصران. رسميًا، سُجِّل ابني باسم بطليموس، ونُسب أبوه إلى أخي، الذي كنت متزوجة به. شعب مصر أطلق على ابني باحتقار اسم “قيصرون الصغير”، دلالةً على ازدرائهم لهذا الطفل المولود خارج إطار الزواج. حمقى! فوالده ووالدته من أنصاف الآلهة.
استمرت الاحتفالات بميلاد بطليموس قيصر في مصر لعدة أيام. حملني العبيد من القصر بكل الإجلال على محفةٍ مذهبة، كنت أجلس عليها على عرشٍ ذهبي أرمق شعبي بنظرات ملكيّة وهم يرافقونني حشودًا حتى معبد الإلهة حاتور.
كان قيصر يسخر مني. كنت أغتاظ، لكنني كنت أرى الحب في عينيه. كنت أذوب في عناقه، وكانت ليالي حبنا تنقذني، كأنها إكسير الحياة.
لكن جاء اليوم الذي غادر فيه حبيبي قيصر إلى سوريا، ومنها إلى آسيا، فجمع جحافله وتوجه لمحاربة فرناكس. طريق القائد حافل بالحروب.
أما أنا، فقد قضيت على الخصي بوتين، الذي ساعد زوجي الراحل في نفيي من مصر. أبلغني أتباعي المخلصون بدوره في ذلك التمرد. كنت قادرة على أن أغفر له وأرسله إلى السجن حتى مماته. لكن حين علمت كيف كان يهين جيش قيصر ويطعم جنوده أخشن خبز في مصر، احتقارًا لحبيبي، لم أستطع أن أغفر له.

أعطيته سمًّا يسبب عذابًا طويلًا قبل الموت، أطول وأشد ما أعرفه من آلام. لقد لوّث بوتين نصر قيصر في حرب الإسكندرية، بقطع رأس بومبيوس وتسليمها إلى قيصر، تمامًا كما لوّث موت زوجي السابق في مياه النيل عودتي المظفّرة إلى عرش مصر. لذلك كنت أفهم، أكثر من غيري، غضب قيصر واستياءه في تلك اللحظة.
تمرّ الأيام وتتبعها الليالي، ويطرد الفجرُ الظلمة مجددًا. أعلم أن قيصري العظيم، وإن لم يكن الآن بجانبي، فهو يفكر بي. يقولون إن حبيبي أمر بوضع تمثالٍ لي مذهّبٍ عند مذبح فينوس، أم الآلهة. كنت لأفضّل أن يُنصب تمثالي في معبد أفروديت، لكن فينوس تنتمي إلى سلالة قيصر، فليكن. كنت أشتاق إليه.
كان عبير العسل يختلط برائحة الشموع والبخور. الحليب الدافئ يحتضن بشرتي السمراء. أحب هذه الحمامات المسائية بالحليب والعسل. كأنني بذاتي، أنغمس في دعة مطلقة داخل حوضٍ ذهبي يمتلئ بالحليب حتى الحواف. في تلك اللحظات، تذوب كل همومي. كلّ ما يشغل بال الملكة الإلهية كليوباترا يذوب في الحليب، محلى بالعسل، ويتحوّل إلى لذة ليلية.
قدّمت لي إحدى الجواري منشفة قطنية بيضاء مطرّزة بالذهب، ولفّت بها جسدي الشاب المشدود. أشرت لها بالانصراف. ثم، في الغرفة التالية، ألقيت المنشفة جانبًا وجلست على غطاءٍ حريري مطرز بالذهب يغطي سريري الملكيّ. دخلت جارية أخرى في صمت، تحمل صينية ذهبية بيدين بلون الليل، وعليها كأس ذهبي يلمع تحت وهج الشموع، مملوء بالحليب الدافئ والعسل.
أرتشف شرابي الليلي ببطء، أتأمل لهيب الشموع، ثم أشير للجارية، فيدخل رجل مصري أسمر، طويل القامة، بجسدٍ رياضيّ مكسو بتوجة مذهبة. يتلألأ شعره المجعد بزيوتٍ عطرية. كانت ساقاه تذكّراني بساقي الإله زيوس.
قلت له:
– أتفهم أن هذه الليلة هي الأخيرة في حياتك؟ أن الفجر حين يمزّق سحرها، ستُقطع رأسك؟
أجابني:
– نعم، سيدتي. لكن هذه الليلة ستخلّدني في قلبك إلى الأبد.
ضحكت. جميعهم في لحظاتهم الأخيرة، بعد شهوةٍ محمومة، يظنون بأنهم خالدون. كانوا جميعًا يحاولون أن يسحروني كي أُبقيهم أحياء لليالٍ أخرى. لكنهم لم يفهموا أن في حياتي رجلًا واحدًا فقط: قيصر العظيم، ولكل ليالي عمري.
كنت أجمع رؤوس أولئك الرجال كأنها غنائم حرب. كانوا جميعًا فاتنين بجمالٍ سماوي. لكنهم ليسوا آلهة. كانوا عبيدي، عوامًّا، ومثلي مثل كهنة الآلهة، هم أيضًا فانون، وإن زعموا أنهم اقتربوا من حدود الألوهة، حتى أن أنوبيس نفسه قد يتردد في أخذ أرواحهم.
هذا كله يسليني. فأنا، كليوباترا، الملكة الإلهية لمصر، أعلم أنني فانية. لكني أخوض حربًا ضد الزمن دفاعًا عن جمالي. الجمال هو من يحكم العالم، والجميع يعبدونه. حتى القائد العظيم قيصر خضع له. خضع لجمالي.
لقد دفعه جمالي إلى خوض الحرب في الإسكندرية. ولم يُنقذْه من الهزيمة والموت سوى معجزة. وهذه المعجزة كانت حبه لي، لكليوباترا، ابنة سلالة البطالمة.
أعتني بجسدي عناية العلماء. يصنع عبيدي لي خليطًا من شمع النحل وعصارة الصبار، يضيفون إليه زيوتًا حسب مزاجي، ويدهنون به يديّ كل يوم. يغسلن شعري بصفار البيض الطازج، ويشطفنه بمغلي الأعشاب. أحب تلوين شفتيّ وأظافري بمستحضرات تُصنع من حشراتٍ مسحوقة ومعاجين زاهية.
جسدي أملس، لأن عبيدي يزيلون أدق الشعر باستخدام سكر محترق وأعشاب خاصة. هكذا، يقضي النصف الأول من يومي في الجمال. وبعد الغداء، أتفرّغ لشؤون الدولة.

أعيش وأحكم بلادي بعيدًا عن قيصر. فأنا كليوباترا، الملكة الإلهية لمصر. لا يمكنني السماح لزوجي الجديد، أخي الأصغر، أن ينمو ويطمع في الحكم وحده، كما حدث مع سلفه. الآن لديّ ابن، قيصرون، ويحق له، حسب قانون مصر، أن يكون شريكًا لي في الحكم لكونه ذكرًا.
نعم، لقد سمّمت أخي بطليموس، الذي كان زوجي. من الأخطاء نتعلم، وأنا أتعلّم جيدًا.
لكن يا للأسف، لقد أحرق قيصر مكتبة الإسكندرية أيضًا. لذلك قررت أن أبدأ بكتابة كتاب. عن الجمال. أردت أن أشارك البشرية وصفاتي وأتركها لأحفادي.
أنا مقتنعة سرًا أن السماء لا يحملها الأطلسيون ولا الكارياتيد، بل يحملها الجمال. جمال البشر، والقصور، والأنهار، والبحار. جمال هذا العالم كله. لكنني أعلم أن الفلاسفة والكهنة لن يتفقوا معي.
يجب أن يمتلك المرء عينًا ترى الجمال، فالجمال يسكن في عين الناظر.
دلتا النيل الخصبة تُمكّن المصريين من العيش برخاء. البردي سلعةٌ ثمينة في العالم كله. قمح مصر يُشترى من كل مكان. وأنا، كليوباترا، الملكة الإلهية لمصر، أنا السبب في كل هذا.
آلهة مصر أحبّتني، فالنيل يفيض، والشمس تشرق، والمواسم تثمر.
اليوم، في عيد الإلهة إيزيس العظيم، أُقيم طقس الأضحية. في معبدها، يسلخ عبيدي ثورًا وأُصلّي معهم. يخرجون معدة الثور كاملة، ثم يقطعون الفخذين وأعلى الساقين والكتفين والرقبة.
ثم يملؤون الجثة المتبقية بالخبز النقي والعسل والزبيب والتوت والعطور. ثم تبدأ طقوس إحراق الجثة.
يصبّ عبيدي الزيت بغزارة على الثور. ينوحون، وصدى بكائهم يتردد في مصر كلها. فمن أجل إيزيس، لا بأس بالبكاء.
هي أعظم الإلهات. وأنا، مثلها، أحطت نفسي بسبعة عقارب في هيئة بشر. مثلها، أنجبت ابنًا. مثلها، أقاوم أعدائي باستمرار.
لكن على عكسها، لا أملك فضيلة التسامح. أنا لا أغفر للمسيئين إليّ، ولا حتى لعقاربي. ولهذا، إيزيس هناك، في المعبد، أما أنا، فأجلس على عرش مصر العليا والسفلى، في الشروق والغروب.
أنا الملكة الإلهية ليلًا ونهارًا.
وهنا يكمن الفرق بيني وبين الإلهة. فهي أمٌ طاهرة، أما أنا فأحب الملذات الجسدية. أحب الرجال. أحب قيصري. لأنني كليوباترا.
ولْتبكِ إيزيس النيلَ على حبيبها أوزيريس، لكن أوزيريس لم يكن مخلصًا لها حتى النهاية. وهنا يكمن الفرق بين قيصري وأوزيريس. أظن أن إيزيس تدرك ذلك، ولهذا تُعطي مصر الخصب والسلام النسبي.
نعم، أنا واثقة أن إيزيس هي راعيتي. هي أفروديتي.
يأكل الناس لحم الأضحية المشوي. تُشوَى الأفخاذ والرقبة المقطعة. الخمر والبيرة تسيلان. والخبز الطازج في شمس مصر يزداد عبقًا. أحب هذا العيد.
ابني قيصرون معي، وسط عبيدي وشعبي. هو نجم هذا الاحتفال، بعد إيزيس، بالطبع.
قدر يليق بابن القيصر العظيم والملكة الإلهية لمصر، كليوباترا.
بمجيء قيصرون، صار عالمي أكثر انسجامًا. لكن الشوق إلى قيصر يعتصر روحي.
الجميع حولي يحتفل، إلا الكاهن الأكبر حوريخور، يرقب الجميع كصقر جارح. في عينيه يرى نفسه عظيمًا. وهذا يضحكني.
الرجال لا يُحسنون إخفاء مشاعرهم، مهما كانوا: كهنة أم قادة.
في المساء، وصلني رسول برسالة من قيصر. كانت جاريتي تدلّك جسدي بزيت اللوز، وكنت أقرأ رسالته المليئة بالحب وأنا في نشوة مطلقة.
لا أخفي هذه الرسالة. فقيصر فاق الجميع في كل شيء، ورسائله لي مشفّرة دومًا. لا أحد سواي يعرف مفتاح شفرتها.
فكتابة الرسائل بالقبطية أو باللاتينية خطيرة. لقيصر أعداء كثيرون، وله زوجة رسمية في روما.
لكن لا أحد منهم يخمّن أنه يكتب لها، للملكة الإلهية لمصر، كليوباترا.
“لا نشوة أعظم من استرجاع الكلمات التي هُمست إليك ليلًا. ولا شيء في الدنيا يُقارن بملكة مصر”، هذا ما كتب.

ابتسمت بعمق. وتأكدت مجددًا أن الحب يحكم العالم.
يحكم الأباطرة، القادة، والآلهة. بل حتى أنا، الملكة الإلهية لمصر، كليوباترا.
لقد خضعت لهذه المحبة، مثل لبؤة تخضع لأسدها.
ولا يهمّني نباح الضباع. فلن يفهموا أبدًا هذه العاصفة العاطفية الإلهية.
يرتجف جسدي عند ذكرى عناق قيصري الحار.
وأعلم أن أحد عبيدي المشتعلين شهوةً سيُقطع رأسه مع بزوغ الفجر.
لا أحتمل قضاء هذه الليلة وحدي.
سأفرّ هذه الليلة من أحضان مورفيوس إلى أحضان رجلٍ لا أعرف اسمه.
في البرديات القديمة، كُتب أن نفرتيتي كانت تعشق الاستحمام بماء الياسمين.
وأنا أحب عطر الياسمين. يدور رأسي من عبقه.
لكني لا أخبر أحدًا.
لستُ نسخةً من نفرتيتي.
أنا هي أنا.
كليوباترا، الملكة الإلهية لمصر.
في تلك البرديات أيضًا، كتبوا أن المصريين كانوا يبتهجون عند سماع صوت نفرتيتي.
أما شعبي، فيبتهج بمجرد ظهوري.
ولا حاجة لي لأن أفتح فمي.
عندما عاد قيصر إلى روما، ذهبتُ بدعوة منه برفقة قيصرون. تركتُ الدولة تحت رقابة غير معلنة للوفيّ لي، أبولودور الصقلي، الذي بدأ بعد عودتي إلى العرش المصري في تتبّع أعضاء “نظام القدماء” الذين كانوا خلف نفيي. لقد حرّضوا شقيقي على التمرّد ضدي. وكان أبولودور قد تمكّن من القبض على أحد جواسيس هذا التنظيم، فاعترف بمحاولة اغتيال جديدة يُعدّ لها بعض الرومان ضدي. تعاملتُ معهم بقسوة. فقد سمحت لي تجاربي الطويلة على المساجين بالسموم، أن أكتشف أكثرها فتكًا. وسقيت بها كل الخونة. دائمًا ما أكرر أنني لا أعرف كيف أغفر لأعدائي. ولولا قبضتي القوية، وإن كانت ناعمة، لما ساد هذا الهدوء النسبي في الدولة، فقد أخضعتُ كلّ الذئاب التي حاولت أن تغرز أنيابها في عنقي الرشيق.
كان طريقي من الإسكندرية إلى روما طريقًا بحريًا. وأنا أعشق البحر، بلونه الفيروزي تحت الشمس، والذي يتحوّل إلى زمردي عميق. يهبّ النسيم عليّ منعشًا، فيملأ الأشرعة، ويملأني بخفّة الهواء. تلك الخفة لا شك أن أفروديت نفسها شعرت بها. رافقني أسطولي في الرحلة، وفي أحد الأيام وجدتُ في محارة طازجة لؤلؤة متناسقة ناعمة، تتوهج من الداخل بنور يشبه ضوء القمر. أردتُ أن أكون مثلها. أمرتُ الخدم بإحضار نصف كأس من الخل، وألقيتُ فيها اللؤلؤة، وعندما ذابت، أضفتُ ماء وشربته كلّه دفعة واحدة. كنت أتعجل أن يسطع جلدي من الداخل قبل أن ألتقي بقيصر، كي يبهَتَ من فرط إعجابه بي، أنا الملكة الإلهية لمصر، كليوباترا.
استقبلني قيصر حيث يصبّ نهر التيبر في بحر التيراني. نظر إليّ كما نظرتُ أنا إلى تلك اللؤلؤة. بدا لي أنني أعرف ما يدور في رأسه. أبحرنا في نهر التيبر وأنا أتأمل ما حولي من مناظر خلابة.
– هل تعجب كليوباترا ضفاف التيبر؟ – سألني قيصر.
كنت مأخوذة بسحر تلك الطبيعة. أوقف قيصر قواربنا عند أحد الأرصفة. وعلى بُعد، ظهرت فيلا ضخمة. وعندما ركبنا عربة تجرها خيول بيضاء ووصلنا إلى بوابتها، شهقتُ من فخامة المكان. عندها قال لي قيصر، مبتسمًا:
– لا أدري إن كان هذا القصر يليق بملكة مصر، لكن أرجو من محبوبتي أن تقبله هدية مني، وسأدع خيالي ينعم بصورة السرير الذي أهديته الآن لأجمل امرأة في مصر، وروما، واليونان.
شهقتُ غضبًا، فضحك قيصر وأضاف ساخرًا:
– وفي كلّ أنحاء العالم، الذي صنعه الآلهة.
تنفستُ وابتسمتُ لقيصر. على العشاء في قصري الجديد على ضفاف التيبر، أخبرتُه أنني جلبتُ معي الكاهن الأكبر. لم يتمكن من إقناعي بتركه في مصر، لا بالآلهة ولا بتقاليد المصريين. أعلم أنه خطير كأفعى سامّة. ويجب أن تبقى الأفعى أمام ناظريك حتى لا تلدغك فجأة. طلبتُ من قيصر أن يرسل له واحدة من جارياته لخدمته، أثناء إقامتهما هنا. ولم يشكّ أحد في أنها ستغويه وتقوده للخطيئة. إذ لا يجوز للكهنة المصريين أن يمارسوا الجنس مع الرومانيات. لكنني حين أعود إلى مصر، سأحتفظ بسرّه هذا، حتى يخطئ. ثم آخذ تلك الجارية معي إلى مصر، وأجعلها جاريتي الخاصة. أتساءل، هل كانت له علاقة مع قيصر؟
كان صباح ضفاف التيبر ضبابيًا، وأنا لا أحب الضباب. فالحياة تكفينا منه. طوال سنوات حكمي لم أفعل سوى تبديد ضباب المؤامرات. تناولتُ الفطور مع قيصري، وكان هو الشمس التي تبدّد كل ضباب. بجانبه أشعر بالأمان. وبينما كنا نتناول الفاكهة، جاء رسول بقيصر يحمل أخبارًا عن اضطرابات في روما بسبب وصولي. استغلّ أعداء قيصر الموقف وأقنعوا الشعب ومؤيديه بأنه تخلّى عنهم لأجل ملكة مصر. أسعدني هذا الرأي كامرأة. لكنني كملكة، أدركت خطورة الأمر. هكذا تبدأ الثورات. وأنا اختبرتها شخصيًا.
سارع قيصر إلى روما، وذهبتُ معه. كنت أرغب بشدّة أن أرى تمثالي الذهبي في معبد فينوس. لكن الأهم كان تهدئة خصوم قيصر، ومنح زيارتي طابعًا دبلوماسيًا. أنا، الملكة الإلهية كليوباترا، جئت في مهمة مشروعة: الحصول على اعتراف رسمي، وتوقيع اتفاق يعزّز سلطتي في مصر. لم تستغرق المراسم الرسمية كثيرًا. نجح قيصر بيده القوية في تهدئة اشتعال الخلافات في مجلس الشيوخ.
لكنني لم أستطع البقاء أكثر بجانب من أحب. الطقوس والاحتفالات الدينية في مصر تتطلّب حضوري، حتى لا أفقد رضا الآلهة، ولا محبة شعبي. عُقد التحالف الرسمي مع روما، وبدأتُ أجهّز للرحيل. لم يعترف قيصر بابنه قيصرون، وأدركتُ أنه لم يكن مستعدًا لذلك بعد. ومع ذلك، منحني جميع أوسمة الشرف وأعلى التكريمات. وهذا جعل الرومان يكرهونني أكثر. صرخ سيسيرو في الساحة قائلاً: “أكره الملكة!”، يا له من أحمق! نسيت أن أفي بوعدي بإحضار مخطوطات بعض علماء مصر. وكان يهاجم وزيرِي أمنيوس لأنه لم يرسلها. لكن من يكون سيسيرو أمامي، كليوباترا، الملكة الإلهية؟ لم يكن الوقت مناسبًا للرد عليه، فلا هدوء في حدود روما.
كانت سفني محمّلة بهدايا قيصر. كنت حزينة لفراقه. وعندما وردني خبر الغدر والخيانة التي أودت بحياة قيصري الحبيب، شعرت وكأنني إيزيس، أقدر أن أبكي النيل، بل والبحر التيراني نفسه. بات قيصرون كل ما تبقى لي من قيصر. وكنت لا عزاء لي. نظري نحو الشمس، لكن عينيّ لا تريان سوى ليل دامس. صارت تبكي من تلقاء نفسها. برد قلبي، وامتلأت روحي بالحزن. فقدت من أحببته كما أحببت نفسي. لأول مرة تمنّيت لو أنني لست فقط ملكة عظيمة، بل إلهة. لقد مات قيصري لا في ساحة معركة، بل على يد رفاقه وأصدقائه في وطنه، بسبب حبه العظيم لي. في الليالي، كنت أنظر إلى السماء وأتذكّر كلماته: “القدر ليس في النجوم، بل فينا“. لكن قدره كان في أيدي الخونة. فالعدو تعرف ما تتوقعه منه، أما الخيانة فتأتي ممن تثق بهم.
وصلت سفني إلى ميناء الإسكندرية، وانغمستُ في شؤون الحكم. كان عليّ الاستعداد للحرب. شعرت أن الرومان لن يتركوني وشأني. كان يجب أن أحمي نفسي، وعرشي، وقيصرون. قال لي قيصر يومًا: “لا يخسر سوى من يملك شيئًا“. وأنا أملك كل شيء. ولا أريد أن أفقد شيئًا. لأنني أنا، كليوباترا، الملكة الإلهية لمصر.
بعد مقتل قيصر، بدأت مرحلة عصيبة في حياتي. تراجع حزني أمام موجات الغضب. فقد كان في وصيته قد نسي تمامًا أن يذكرني أنا أو ابننا بطليموس قيصر. كل سلطته وممتلكاته أوصى بها إلى ابن أخيه أوكتافيان أوغسطس. ومع اشتعال الحرب الأهلية بعد مقتله، صرتُ في موقف حرج. كل طرف في الحرب كان يسعى لطلب دعمي. لكنني لم أستطع المجازفة، فلم أكن أعلم من سينتصر. وإذا وقفت إلى جانب المهزوم، فسأجلب على مصر غضب المنتصر وخطر ضمّها إلى روما. لذا، قررت التخلص سريعًا من فيالق قيصر التي أبقاها في مصر، خوفًا من مؤامرة محتملة من داخلها، وأرسلتها للقتال ضد دولابيلا، أحد أتباع قيصر، وكان صهر سيسيرو الذي أكرهه.
كذبتُ على كاسيوس وقلتُ إن الفيالق غادرت الإسكندرية من تلقاء نفسها وانضمت إلى دولابيلا. وماذا كان بوسعي أن أفعل؟ كاسيوس كان مكروهًا من كل من بقي وفيًا لقيصر حتى لحظاته الأخيرة. ورغم أنه وعدني بالحماية، فقد رفضتُ منحه دعمي العسكري، متذرعةً بالجفاف والمجاعة والأمراض التي كانت تعصف بمملكتي. وبلغني أن كاسيوس قد استشاط غضبًا من رفضي، وتوعد بالانتقام مني علنًا. كنت أعلم أن إعلان كاسيوس الحرب عليّ يعني سقوط مصر. لكنني، كليوباترا، الملكة الإلهية لمصر، أعرف كيف أحافظ على ملامحي ثابتة في أحلك الظروف.
بروت أنقذني من هذا الحرج، عندما استدعى كاسيوس وجيشه لمساعدته. تنفست الصعداء، وإن مؤقتًا. ومع ذلك، ظلّ الخوف من فقدان جيشي وأسطولي يراودني. ولذلك عقدتُ معاهدة سلام مع أوكتافيان ومارك أنطونيوس. صحيح أن الشكل الظاهري كان “ثالوثًا حاكمًا”، لكن من يكون ليبيد؟ لم يتمكن من حماية قيصر، حتى أنه كان يتناول معه العشاء ليلة اغتياله. ليبيد لم يكن سوى ظلّ في السياسة والعسكرية. وقد كنتُ أعلم ذلك جيدًا. من كانا يُمسكان بزمام الأمور فعليًا هما أوكتافيان وأنطونيوس.
كان مارك أنطونيوس حليفًا مخلصًا لقيصر، وكان يؤمن أن سبب مقتله هو حبه لي. شاب متهوّر! لم يعرف الحب، ولم يذق طعمه. ولهذا، عندما دعاني، لم أتردد في القدوم إلى طرسوس. كنت مستعدة تمامًا.
دعاني أنطونيوس ليضمن ولاء مصر، فجئته بكل ما أملكه من بريق وسحر. أقمتُ عرضًا مسرحيًا حقيقيًا، بممثل واحد ومتفرج واحد. وكنت أنا الممثلة، كليوباترا، الملكة الإلهية لمصر. وقفتُ أمام مارك أنطونيوس مجسدة صورة أفروديت، بكامل فخامتها وبهائها. أنا مستعدة لفعل أي شيء من أجل سلطتي. قيصر، رغم كونه حبي الأول الجارف، لم يكن إلا جزءًا من خطتي لحفظ عرشي المصري. كنت أظن أن قيصرون سيرث سلطة روما. لكن الأمور لم تسر على هذا النحو. الآن، أفكّر أنني أنا من كنتُ جزءًا من خطة قيصر، فهو نال تأثيرًا على مصر من خلالي، بينما لم أنل أنا أي تأثير حقيقي على روما.
أغلقتُ باب الماضي، وخطوت إلى مستقبلي، ومستقبل مصر. ارتديتُ ثوبًا فخمًا، وتوّجتُ رأسي بتيجان من الزمرد، وحزامًا ذهبيًا على خصري مرصعًا بالأحجار الكريمة، وقلادة ضخمة على صدري، وأقراطًا ذهبية تتدلّى من أذنيّ، بينما يفوح من جسدي عطر الورد. كنت أحمل كأسًا ذهبية ملأتها بالخمر، مثل أفروديت تمامًا. وقلتُ له أول ما قلت، وأنا أقدّم له الكأس:
“اشرب من هذه الكأس، تنل شبابًا أبديًا.”
شعرتُ أنني أفروديت التي خرجت تواً من زبد البحر لتعلّم الناس الحب. نظرت إلى مارك أنطونيوس، ورأيتُ هرقل، بقامته المهيبة، لحيته المتناسقة، جبينه العريض، وأنفه المعقوف الجذاب. أسرني على الفور وإلى الأبد.
فهم كل شيء وقال، بدلًا من التحية:
– أهو نسيم البحر من حملك إليّ؟ يا للأسف أنني لم أرك في صدفة البحر وسط مياهه.
ابتسمت له بخجل وهمست:
– صدفتي بقيت على ضفاف النيل… وأنا أدعوك إليها.
تلاقت أعيننا، وفهم كل منا أن لا شيء في هذا العالم سوى عيني الآخر. وكل ما تبقى لا يهم. كنا على استعداد لأن نضع العالم تحت قدمي من نحب. كنت أستمتع باكتشاف أنطونيوس. تجوّلنا كثيرًا في أسواق وشوارع طرسوس. كنا نحب السير قرب البحر. مدينة طرسوس مدينة مدهشة. فيها، كما فينا، التقت حضارتا الشرق الأدنى واليونان. بدت لي كالإسكندرية، تشتهر بالتجارة والعلم.
لكن هذه المقاطعة، كيليكية، كانت تحت حكم شيشرون. وكعادته، كان يسيء للجميع، ويصف سكانها بالجبليين المتوحشين غير القابلين للترويض. لا أطيق هذا المتغطرس الكريه، الممتلئ سخرية سوداء من الجميع. أظن أن مقتل قيصر كان فرحته الوحيدة. وها هو الآن يعارض أنطونيوس في مجلس الشيوخ، بل تحالف مع بروتس ووريث قيصر ضد أنطونيوس. لو كان القرار لي، لقطعت رؤوسهم الثلاثة دون تردد. فابتهجتُ حين قطع أنطونيوس رأس شيشرون بنفسه، وعلّق رأسه ويديه المقطوعتين على مرأى الجميع.
روح أنطونيوس كانت توأمًا لروحي. كنا نرى الأشياء بالعالم بعين واحدة، كأن لنا عينين من مشكاة واحدة. علّقت آمالي على مارك أنطونيوس. وكنت واقعية في ذلك. إنه جميل، سخيّ، يحب اللهو، تعشقه النساء. ولم لا؟ فقد أحببته أنا، كليوباترا، الملكة الإلهية لمصر. لم أكن لأحب رجلاً قبيحًا، بخيلًا، كئيبًا، وعاديًا. وهو أيضًا شديد التفاخر والطموح، يُقلّد قيصر حتى في حبه لي، وأنا جزء من هذا التقليد. هو يطمح لحكم الشرق والغرب، وأوهمته أن الشرق أصبح له، فأنهى زواجه في الغرب. هناك قالوا إن أنطونيوس استبدل أوكتافيا بـ”ملكة بربرية“!
أأنا البربرية؟! لم يتقن أيٌّ منهم لغة أجنبية، أما أنا فأتقن ثمانٍ، منها اللاتينية. شعبي يقدّرني. وهذا بفضل جهدي؛ أول ما فعلته حين توليت الحكم أنني تعلّمت لغة بلادي. وقيّم شعبي ذلك. أنا، حسب ظنهم، الملكة البربرية، أكثر فطنة من أوكتافيا الغبية. ولهذا تبعني أنطونيوس. فشرقيّتنا أكثر حكمة من غربهم. أيٌّ من وزرائي أو كهنتي أعلم من كامل مجلس شيوخهم.
أغبياء! يظنون أنفسهم فوق العالم. بلوتارخ وصف حب أنطونيوس لي بأنه “ضعف طبيعي” غرق فيه كما في الشباك. يبدو أن حياته تمضي بين تماثيل باردة، لا على أسرّة الليالي الساخنة. أما الليالي الأكثر حرارة فهي الليالي المصرية.
كان أنطونيوس يحب صيد السمك، ويظن أنني أنا صيده الثمين. ولم أمانع أن يفكر بذلك. في إحدى رحلات الصيد، أمر الغطاسين بأن يعلّقوا لؤلؤًا على صنارتي. أدركت خدعته، فأمرت عبيدي أن يعلّقوا سمكة مدخّنة على صنارته. فوجئ بذلك، وقلت له، محتبسة ضحكتي من وجهه المندهش:
“في مياه نيل الملكة الإلهية لمصر، كليوباترا، كل شيء معدّ مسبقًا لمارك أنطونيوس!”
كان سعيدًا. وفي المساء كنّا نلهو، أحيانًا نتنكر في ملابس العامة، ونزور بيوتهم.
أنا أتشبّث بأنطونيوس. إنه كقصبة البامبو أغرسها في نيل مصر، أتنفّس عبرها. بل أمرت الكاهن الأكبر أن يقيم قربانًا في معبد إيزيس. كنت أعلم أن الأرض من تحتي ليست أبدية. عليّ أن أهيّئ العرش لقيصرون. ولم أعلم أن إيزيس أعدّت لي فرحة مضاعفة: رزقت بتوأمين من أنطونيوس. وهكذا، بعد كل المحن، منحتني الآلهة سعادة مزدوجة: ولدين وابنة. أرعاهما بلا كلل، وأستعيد نضارتي، وأواصل سعيي نحو الشباب الأبدي. خادماتي يلهثن خلف أوامري، وأنا أُشرف على كل شيء بنفسي.
الآن، أعلم يقينًا أنني الملكة الإلهية لمصر، كليوباترا، لأن قرابيني للآلهة قد عادت إليّ مضاعفة: حاكم روماني جديد، وطفلان هما ورثة روما الشرعيون.
الكاهن الأكبر كان مدركًا لذلك، وخائفًا من اتحاد مصر وروما في مملكة واحدة. الرجال، حتى وإن كانوا كهنة، يفكرون بعقلية بسيطة. أما أنا، كليوباترا، فلا أنوي مشاركة أحد عرشي. الفراش أمر آخر. أما العرش… فلا!
تستمر الاحتفالات تكريمًا للإله رع في مملكتي عدة أيام. لقد أنهك الجفاف المتواصل لسنوات مخزون الدولة. أمرتُ بزيادة عدد الأبقار الحلوب وعدد الحالبين، فمع ولادة التوأمين زادت الحاجة إلى الحليب. وتناقلت الألسن الخبيثة أنني أستحم بحليب الأتان، فأصدرت مرسومًا بقطع ألسنة من يردد ذلك. أنا، الملكة الإلهية لمصر، كليوباترا، لا أستحم سوى كل مساء بأعذب حليب البقر الممزوج بالعسل الطازج المعطّر.
يُحرز قيصرون تقدمًا في الرياضيات. أعتقد أن دمي يجري في عروقه أكثر من دم قيصر. فأنا أحب الرياضيات. قررت اليوم أن آخذ قيصرون إلى الشرفة العليا في القصر لنتأمل النجوم، ومن اليوم فصاعدًا سيتولى الفلكي الملكي تعليمه علم الفلك. كنت أود اصطحاب مارك أنطونيوس معنا، لكنه يكره العلوم بطبعه. هو رجل حرب. لكن على كل قائد أن يعرف الرياضيات ليحسن تنظيم جنوده قبل المعركة.
خادمتي تضع الكحل في عيني. هذا المساء، تحت النجوم، أريد أن أكون أنا النجم الأكثر سطوعًا. ينتظر مارك أنطونيوس مفاجأة غير مسبوقة: صنع رعيتي نجمات ذهبية ستزين بها أرضية مخدعنا. وعارية تمامًا، لا يغطي رأسي سوى تاج ذهبي على هيئة نجمة، دخلتُ إليه. كانت ليلتنا تلك، ليلة نجمية. اندهش مارك أنطونيوس وسحره المنظر. فلجذب الرجل، تكفي لحظة، أما للاحتفاظ به، فلا بد من أن تُبقيه مندهشًا. فإذا كفّ الرجل عن الاندهاش، بقيت المرأة وحيدة. إلا أنا… كليوباترا، الملكة الإلهية لمصر.
شراكتي مع أنطونيوس أفادت شعبي. فقد منحني أراضٍ من الإمبراطورية الرومانية لتخضع لحكم مصر. لكن الهدوء لا يدوم. عطش أنطونيوس الذي لا يُروى للسلطة فجّر الحرب ضد وريث قيصر، أوكتافيان. أكرهه بمرارة، من أجلي ومن أجل قيصرون.
لم أكتفِ بإعطاء جيشي وأسطولي لحبيبي أنطونيوس، بل سافرتُ بنفسي معه للقضاء على أوكتافيان. خرجتُ للحرب كما كان يخرج قيصري الراحل. أردت أن أُظهر لأعداء أنطونيوس أن الملكة الإلهية لمصر تقف وراءه. أنطونيوس يحتاجني. وكنت أردد على مسامعه: “أنا أملك مصر، وأنت تملك قلبي”. وكان يحب سماع ذلك. يبتسم بثقة، ولكني أعلم أنه حقًا سعيد بي. كما كان سعيدًا حين أنجبت له ابنًا آخر.
وحان وقت انتصاري. اعترف مارك أنطونيوس بأبنائه. اعترف أن بطليموس قيصر هو ابن يوليوس قيصر، ومنح أولادي ممالك. جرت مراسم التتويج في الإسكندرية. جلستُ أنا ومارك أنطونيوس على عرشين ذهبيين، بينما جلس أبنائي على عروش فضية صغيرة. احتشد عشرات الآلاف من شعبي ليشهدوا المشهد. وأعلن حبيبي أنطونيوس أمامهم أنني، الملكة الإلهية لمصر، كليوباترا، “ملكة الملوك”. شعرتُ أنني لم أكن بهذا القدر من السعادة من قبل. الكون نفسه التفّ حولي كوشاح، يغطيني في عالم نشوتي. أبنائي، أنطونيوس، وشعبي كانوا يشاركونني فرحتي.
وفي تلك اللحظة، نسيتُ أن الحرب مع أوكتافيان تقترب. كان أنطونيوس كريماً بشكل استثنائي: منح أبناءه أرمينيا، وبلاد الفرثيين، وسوريا. وابنتنا كليوباترا سيلينا حصلت على جزيرة كريت. وهكذا، خطتي التي وضعتها قبل سبع سنوات آتت أُكلها. فقد قدّمتُ لأنطونيوس خبز مصر لحربه ضد الفرثيين، فتحصل أبنائي على ممالكهم، ومعها كريت. أما مصر فبقيت لقيصرون. احتفل شعبي، أما أنا، فقد كنتُ أعرف ثمن هذا الاحتفال. فالملوك وحدهم يعلمون ثمن أفراح شعوبهم.
جمعتُ جيشًا وأسطولاً. زودت الجيش بالمال والمؤن. وكنت مع أنطونيوس على رأس هذا الجيش. تحركنا ببطء، لأنني لم أستطع رفض دعوات الاحتفال بنا في المدن التي نمر بها. وكان أنطونيوس يعشق الاحتفالات، وكنت أنا بذاتي احتفالًا له. وصلنا إلى البحر الأيوني في نهاية الصيف. وخلال الرحلة، نصحه بعض القادة بإعادتي إلى مصر. فقطعت رؤوسهم جميعًا. فعبيدنا لا ينصحون الشمس أين تشرق. وحده الإله رع يعلم ذلك.
نعم، من خلف ظهر مارك أنطونيوس، والد أطفالي، كنت أتفاوض مع عدوي أوكتافيان. ماذا تفعل امرأة لها أربعة أطفال صغار؟ تحميهم. الإلهة إيزيس تفهمني.
وحين بدأت معركة أنطونيوس وأوكتافيان، واتضح أن الهزيمة تقترب، سحبتُ جيشي وعدت إلى مصر. كان أوكتافيان ينتقم من أنطونيوس لأجل أخته، التي طلقها ليتزوجني. أما أنا، فلم أرد إلا حماية عرشي وأطفالي. تألمت لفكرة فقدان أنطونيوس. فراقه لا يُحتمل. ومع ذلك، راهنت على كرم أوكتافيان، وأرسلت له رسالة أرجوه فيها أن يُنهي الحرب ويعيد إليّ أنطونيوس في الإسكندرية.
عاد أنطونيوس إلى مصر، غارقًا في الحزن، مكتئبًا كأن الشمس حجبتها الغيوم. لأول مرة شعرتُ أننا خسرنا كل شيء. فكرت في الهرب من مصر، فلم أكن أستطيع الوثوق بأوكتافيان. كان ابني الأكبر، بطليموس قيصر، بمثابة شوكة في عين وريث روما. حتى أغبى الناس كانوا يعرفون أن ابن قيصر يمكنه المطالبة بالعرش في أي لحظة، رغم وصية والده. حاولت تشجيع أنطونيوس، فقلت له:
“الخاسر الوحيد هو من لا يسعى للنصر”.
فغضب، وظن أنني أقتبس من قيصر. لكنها لم تكن كلماته. بل أصبحت مثله بعد سنوات العيش معه… بل أكثر ذكاء ومكرًا.
فثلاثيتي الخاصة عظيمة: أنا، كليوباترا، الملكة الإلهية لمصر؛ وأنا، أم لأربعة أطفال؛ وأنا، أجمل والمرأة الأكثر غموضا في هذا العالم.
أحب ابنتي كليوباترا سيلينا حبًا خاصًا، يختلف عن أبنائي الذكور. يجب أن تصبح مثلي. في إحدى الليالي، دخلت غرفتها لأتمنى لها أحلامًا سعيدة، فوجدتها أمام المرآة، وخادمتها تمشط شعرها. وكانت تهمس:
– مشّطيه مثل شعر أمي. أريد أن أكون جميلة مثلها. فالعروش الذهبية في مصر لا تليق إلا بالجميلات.
ضحكت وقبلتها. فرحت بي. ثم، بجدية، سألت:
– هل لا تحبين أبي؟
فوجئتُ بالسؤال، وسألتها لماذا تظن ذلك؟ فأجابت:
– لأنك تقبلينني أكثر منه!
ضحكت، وكتمت دموعي. كيف أشرح لطفلة في الخامسة أن أباها، مارك أنطونيوس، هو حياتي؟ أنني لا أكون أفروديت إلا معه؟ أنني خنته في المعركة فقط لأحفظه لي ولأطفالي؟ أنني إن فقدته، لن أستطيع التنفس؟ أن أصوات العالم ستفقد معناها، وأن الشمس ستغيب إلى الأبد؟ وأنني سأرجو خارون أن يأخذني في قاربه الذي لا يعود أبدًا.
لكن الليل يعقبه فجر. ومارك أنطونيوس بجانبي. ورُسلي يجلبون يوميًا أخبار الرومان المتعطشين لدمائي. أوكتافيان يريد دم أنطونيوس، انتقامًا لأخته التي طلقها أنطونيوس. وأنا أبحث عن مخرج. أقدّم القرابين يوميًا للآلهة المصرية.
هرب معظم الشيوخ الرومان الذين تبعوا أنطونيوس إلى أرضي. ولم تنجح جلسات الشيوخ في المنفى. الجميع يعرف أن أوكتافيان خالف قوانين روما، إذ لم يكن قائدًا رسميًا حين جمع جيشًا. الحرب التي أعلنها على أنطونيوس، كانت حربًا عليّ، الملكة الإلهية لمصر.
حتى العذراوات الكاهنات (الفيستاليات) خانن معبودتهن وسلمن وصية أنطونيوس إلى أوكتافيان. وعندما قرأها مجلس الشيوخ، وجاءني منها نسخة، فهمت أن أوكتافيان زوّرها، ليؤجج الرومان ضدي. كنت أنتظر هجومه على مصر في أي لحظة.
وحين وقع الهجوم، خرج أنطونيوس للدفاع عن الإسكندرية، ولذتُ أنا وأطفالي بالقصر. ونشرت عبر شعبي شائعة مفادها أنني قد قُتلت. لماذا؟ كانت خطتي بسيطة ومعقدة في آن: أوكتافيان بدأ الحرب ضدي، وأنطونيوس مجرد أداة. فإذا ظنوا أنني متّ، ستتوقف الحرب. سأهرب مع أطفالي متخفية في زي العامة، ثم أعود لاحقًا بجيش جديد لأقتل أوكتافيان. فلم يكن ثمة راحة أو عرش لي دون موته.
لكنني لم أتوقع أن شائعة موتي ستقتل مارك أنطونيوس. يقولون إنه، لما سمع الخبر، أمر خادمه بطعنه، لكن الخادم انتحر بدلاً منه، فطعن أنطونيوس نفسه. ونُقل وهو ينزف إلى قصرنا. ورفعناه بالحبال إلى مخدعي حيث تحصنت. ومات بين ذراعيّ. كأن قلبي توقف. الآلهة هجرتني. إيزيس أعرضت عني ونسيت غايتها. استقر الظلام في روحي. وفهمت أن كل شيء انتهى.
بعد هزيمتنا في الحرب وموت أنطونيوس، سأصبح، أنا كليوباترا، الملكة الإلهية لمصر، غنيمة حرب للوريث الكريه لقيصر. ولم أكن لأسمح له بأن يسوقني في موكب نصره. الكرامة كانت دومًا أغلى من الحياة. فأمرت خادمتي بإحضار أفعى. ووضعتها حول عنقي كأنها عقد ثمين. وأنا أواصل رثاء حبيبي مارك أنطونيوس، انتظرتُ لدغة الأفعى.
كنت سعيدة. ففي وصيته، عبّر مارك أنطونيوس عن رغبته أن يُدفن في الإسكندرية، إلى جوار الملكة الإلهية لمصر… كليوباترا.
© إنَّا ناتشاروفا، 2024
رقم شهادة النشر: 224032401614
إنّا ناتشاروفا Инна Начарова
كاتبة متخصصة في أدب “المرأة”، وقد تُرجمت العديد من أعمالها إلى اللغتين البلغارية والصربية، ونُشرت في الصحافة الروسية والأوروبية.
نُشرت الرواية التاريخية “كولينكا“ في مجلة “لوتش” الأدبية (2013) التابعة لاتحاد الكتّاب في روسيا. أما روايتها “الرومانسية البلدية“ فقد صدرت في عام 2015 ضمن صفحات أقدم المجلات الأدبية الروسية “أورال”. وهي حاصلة على جائزة “الجناح الأبيض” الأورالية، وجائزة “اللوح الأبيض” الأدبية الروسية.
في عام 2020، نُشر مسلسلها القصصي “قصص للمختارين“ في الإصدار الأدبي “روسيا الناطقة بالأمريكية” الصادر في نيويورك، الولايات المتحدة الأمريكية. كما نالت دبلوم التميز “للمهارة” في الدورة الثالثة من المسابقة الدولية في دوسلدورف (ألمانيا). وفي هذه المدينة تصدر المجلة الأدبية الدولية “Za-Za” التي نُشرت فيها روايتا “أم بوذا“ و “الإلهة الزمردية“ (2014).
نشرت لها العديد من القصص والمقالات الصحفية في الإصدارات البلغارية مثل: “روسيا اليوم“, “أسود وأبيض“, “الإكسبريس البلغاري“, و*”أخبار فيلينغراد تمبو”*. ومن ذلك قصة “نوبة ليلية“ التي بدأت رحلتها إلى قراء العالم في الصحيفة البلغارية الأسبوعية “روسيا اليوم“، ثم نُشرت في مجموعة صادرة عن حكومة سانت بطرسبورغ بعنوان “روسيا منذ فلاديمير المقدس في مصائر روسيا وأوكرانيا وبيلاروسيا“. وفي عام 2021، قرأها أيضًا جمهور القرم في مجلة اتحاد الكتّاب بجمهورية القرم “أدب القرم“.
ومن الجدير بالذكر مشاركتها في مشروع الصحفية البلغارية كريستينا ميتييفا بعنوان “سؤال واحد لك“. وهو مشروع إلكتروني يجمع آراء وتأملات شخصيات بلغارية شهيرة من فنانين وكتّاب ورياضيين ومفكرين، وكانت إنّا ناتشاروفا الروسية الوحيدة فيه، واصفةً إياها صاحبة المشروع بـ “واحدة من روسيا”، أو “إحدى الروسيات”.
النجاح الحقيقي لأي كتاب هو أن يُطبع كثيرًا، ويُعاد نشره، ويُقرأ، ويظل في الذاكرة والقلوب. هذا ما حدث مع رواية إنّا “DIVA”، التي صدرت لأول مرة في مجلة “إيستوكي” التابعة لاتحاد كتّاب جمهورية باشكورتستان عام 2019، ثم تُرجمت إلى الصربية وصدرت في صربيا في العام ذاته، قبل أن تظهر أيضًا في مجلة “بريوكسكي زوري” التابعة لاتحاد الكتّاب الروس (تولا)، وكذلك في المجلة الأدبية والتاريخية على الإنترنت “الكاميرتون“. وفي عام 2021، أُهدي هذا الكتاب إلى المخرج الشهير إيمير كوستوريتسا خلال الفلكلوريادا العالمية. هذه الرواية تتحدث عن مصائر روسيا ويوغوسلافيا، عن الموسيقى، والشباب، والحب.
وفي 13 مارس 2022، نشرت مجلة “كاميرتون” الأدبية الإلكترونية روايتها “فندق بريستول“، وهي رواية ما بعد الحرب. ورغم إدراج المجلة في قائمة العقوبات الأمريكية، فإن التاريخ لا يُمحى، والعالم يتذكّر ما دمنا نتذكّر.
نالت إنّا ناتشاروفا دبلوم وعلامة شرف من “روس سوترودنيتشستفو” في بلغاريا “تقديرًا لإسهامها في الحفاظ على اللغة الروسية”، وكذلك جائزة “الأدب كأداة دبلوماسية“ (2019). كما مُنحت الوسام الرسمي لجائزة “أبطال النصر العظيم” الأدبية السنوية (2020).
Я – Клеопатра | Инна Начарова