عندما يتكلم الأراجوز… يُنصت التراث ويبتسم الوجدان

في مساء ساحر من أمسيات القاهرة، وبالتحديد في قلب حي السيدة زينب، شهد بيت السناري التابع لمكتبة الإسكندرية افتتاح الدورة الرابعة من مهرجان الأراجوز المصري، وسط حضور غفير من عشّاق الفنون الشعبية، وأهل الفكر، وجمهور الثقافة الباحث عن جذوره الدافئة.
افتتحت الليلة بعرض تمثيلي غنائي عابق بروح الأراجوز، جسّد مكانته في الذاكرة الجمعية، وأعاد للأذهان ذلك البهاء الشعبي العتيق، ثم أُعلن رسميًا عن انطلاق فعاليات المهرجان، الذي غدا منبرًا حيًا لإحياء الفنون الشعبية، وإعادة الاعتبار لقيمها الجمالية والتربوية والاجتماعية.
وقد حمل الافتتاح بُعدًا إنسانيًا عميقًا، حين أُهديت الدورة إلى روح الطفلة الفلسطينية هند رجب، وإلى أطفال غزة كافة، في لحظة وفاء لبطولتها واستشهادها المروّع وهي تواجه بجسدها الغضّ آلة الحرب، وقد بقيت على اتصال مع طواقم الإسعاف حتى لفظت أنفاسها الأخيرة بعد إصابتها بـ355 رصاصة. لم يكن الإهداء مجرد تحية رمزية، بل صرخة في وجه الصمت، وتذكير بأن البراءة قادرة على هزّ الضمير الإنساني من سباته.
تلا الافتتاح ندوة فكرية حملت عنوان “اقتصاديات التراث”، استضافت نخبة من المفكرين والفنانين والخبراء، في حوار تطرق إلى سبل تحويل التراث من مكوّن هامشي إلى رافد اقتصادي يساهم في التنمية المستدامة. افتتح الدكتور مصطفى جاد النقاش بالتأكيد على أن التراث الشعبي ثروة متجددة، يمكن أن تؤدي دورًا محوريًا في دعم الاقتصاد الوطني، داعيًا إلى إعادة الفنون الشعبية إلى المجال العام، بوصفها أدوات تواصل حيّة وفعّالة.
ثم تحدّث الدكتور محمد ثروت عطية عن التجربة الآسيوية، ولا سيما في جنوب شرق آسيا، حيث جرى توظيف التراث بذكاء ليغدو سلعة قابلة للتصدير، ورمزًا للهوية. لقد دمجت تلك الدول تراثها في التعليم والسياحة والتسويق، فصار اقتصادًا وثقافة معًا.
أما الدكتور أحمد نبيل، فقد استعرض تجربة فرقة “ومضة” كنموذج عملي لإحياء التراث من خلال عروض مسرحية وتدريبية محلية ودولية، موضحًا أن الفرقة لم تكن مجرّد مشروع فني، بل مختبرًا أكاديميًا لبناء وعي ثقافي متجدد.
واختتم الدكتور نبيل بهجت، مؤسس “ومضة”، الندوة بالإشارة إلى أنه صاغ مفهوم “اقتصاديات التراث” منذ عام 2008، وأن تجربته مع الأراجوز تنبع من إيمان عميق بأن الثقافة هي أثمن ما نملكه، وبأنها قادرة على التعبير عنا والتأثير في العالم بصفتها قوة ناعمة.
في أعقاب الندوة، عُرضت المسرحية البديعة “التمساح”، تأليفًا وإخراجًا للدكتور نبيل بهجت، وبطولة مجموعة من فناني الأراجوز، من بينهم علي أبوزيد سليمان، وصابر شيكو، ومصطفى الصباغ. وقد أعادت المسرحية تقديم حكاية شعبية قديمة برؤية عصرية تنبض بالتعاون والوفاء، وتنأى عن الجشع، في إطار تفاعلي بسيط، يفيض بالإنسانية وروح الدعابة.
وفي الختام، صدحت الخشبة بعرض حي لفن الأراجوز، امتلأ بارتجالات وعروض غنائية استدرجت تفاعل الجمهور الذي تجاوب بحرارة، فاستُعيدت بذلك لحظات الفرجة الشعبية التي جمعت الناس يومًا حول الضحكة والدرس.
اختُتمت الليلة الأولى من المهرجان على إيقاع التصفيق والامتنان، وقد بدا في الوجوه أثر السحر الذي صنعه الأراجوز، إذ اجتمع فيه الفن والفكر والحنين، وتجلّت فيه قدرة التراث على أن يكون حيًا، ملهِمًا، مشاركًا في تشكيل المستقبل لا أسيرًا لماضٍ ساكن.
إنه المهرجان الذي يقول لنا: التراث ليس أطلالًا… بل طاقة حياة متجددة.