إعلامجاليريشخصيات

قسوة الدراما وعبقرية الحلول التعبيرية لدى الرسام البولندي جاسيك سروكا

باريس – عبد الرازق عكاشة

(مقال الأسبوع – الجمعة – عن فنانٍ استثنائي رحل عن عالمنا دون ضجيج أو جدل … نص من كتاب “التجريد”، نعمل حاليًا على جمع مواده.)

جاسيك سروكا

أخذت الكتاب تحت إبطي، وسرعان ما أخذني هو إلى غرفٍ وعرة، أدور بين صفحاته وأتوه، ثم هبطنا معًا من الطابق السادس عند الثالثة فجرًا، نبحث عن مقهى مفتوح في شارعٍ يتأرجح بين “حلال الإبداع” ونقاء الذهن. أما حرام البرد، فقد كان قارصًا بدرجة خمس درجات تحت الصفر في شتاء باريس.

كنت أنا والكتاب ندور بحثًا عن مكان يُقدِّم كوب ليمون معطر بقطرات المطر التي تطارد الميكروبات – نعم، وتطارد أيضًا الوقاحات البصرية، تلك التي تجلت في تطاول فنانين على أعمال هذا المبدع.

كثيرًا ما قادتني الدهشة إلى أعماله، وكم من مرة وقفتُ أنا وصديقي أحمد الشرقاوي في سوق “البوركنت”، السوق السنوي لتجار الحي من أصحاب التحف (الأنتيكا)، نتأمل لوحاتٍ عند رجل عجوز يبيع نسخًا مستنسخة. ظننته الفنان نفسه، وكم كانت دهشتي من قوّة التعبير والبناء الدرامي في أعماله، ومن انبهار الجمهور بها.

اقتربت، فقد انقطعت عن كتابة مقال الجمعة منذ أسابيع لانشغالي بمتابعة الكتب والأعمال في القاهرة. لكن اليوم، بينما كنت أودّع صديقي أحمد الشرقاوي، عند أحد جسور نهر السين في ميدان الجمهورية، صادفت الرجل نفسه في سوق آخر من أسواق الأنتيكا.

كان الجو لطيفًا، لكن الشمس تهرب من الأرصفة المغطاة بالثلج، والرجل يقف وحيدًا بجوار دفءٍ متخيل بين خطوط اللون وجمر التعبير. خلفه لوحة لرجلٍ منحنٍ على الأرض، تعكس رؤية الفنان حول الانبطاح والتدنّي عند المزيفين.

كنت مستعدًا نفسيًا أكثر من أي وقتٍ مضى لمشاهدة أعماله، ولا أعرف لماذا. ربما لأن نزلة البرد كانت تحتاج إلى جرعة من الألوان النابضة، أو ربما كنت بحاجة إلى طاقة إنسانية تعيد إليّ توازني.

وقفتُ طويلًا أتأمل، وشاهدت أعماله تُنقل نقلًا في العالم العربي منذ أكثر من عشرين عامًا، في سرقات علنية من عشرات الفنانين، خصوصًا بعد ثورة 25 يناير، من فنانين يدّعون الكبرياء.

اقتربت من الرجل. قطعت خلوته لعلي أقتني عملًا. تعرفت عليه، فوجدته أحد المعجبين بأعمال الفنان، يشتري ويبيع منها كمستنسخات (ليثوغرافيك) في أوروبا، ويعمل كموزّع معتمد من مؤسسة الفنان في بولندا.

أعطاني اسم المؤسسة وكيفية التواصل معه مباشرة.

عدت إلى مرسمي، رغم مرضي، سعيدًا، لكن أعماله طاردتني في النوم. استيقظت أبحث عن حبٍ غائب. ثم نمت مجددًا، فعادت تطاردني أعماله في أحلامي.

تأملت كيف أن الفنان، ببساطة وعفوية، يرصد حالات درامية معقدة، بحلول لونية ذكية تنم عن خبرات متراكمة، بين الوعي واللاوعي، كطبيبٍ يصف العلاج الوجداني والبصري دون ادعاء.

جاسيك سروكا، الفنان البولندي، هو دليلٌ حيٌّ على أهمية الجغرافيا والتاريخ في تشكيل الهوية الإبداعية. فبولندا، ومنطقة أوروبا الوسطى عمومًا، أنجبت دراما لونية غنية منذ زمن الإمبراطورية النمساوية – من إيغون شيلي وكوكوشكا إلى إيدفارد مونك وبازليتز.

فجأة، في الثالثة فجرًا، أخذت الكتاب وهبطت إلى المقهى المجاور لمنزلي المعلّق بين حي مونمارت الفني ومترو بيجال – الشارع المليء بالحياة. جلست في ركنٍ تحت لوحة، أمامي كأس شاي بالليمون، أتأمل لوحة بعنوان “امرأة خلعت عقلها”.

هنا، عند تقاطع فتيات الليل في قاع المدينة وحدود الفن، بدأت أكتب مقالي هذا، وأوثّق لكم أعمال الفنان التي أصبحت شهادات على عظمته، ووثائق على سرقات فنانين وهميين في عالمنا العربي.

من هو جاسيك سروكا؟

  • فنان بولندي، وُلد في كراكوف عام 1957.
  • درس في أكاديمية الفنون الجميلة في كراكوف، وتخصص في التصوير والرسم.
  • تخرج عام 1981، وعمل أستاذًا مساعدًا في الأكاديمية حتى عام 1989.
  • نال عدة جوائز عالمية، منها الجائزة الكبرى في بينالي سيول 1988، وجائزة Wojtkiewicz في بولندا عام 2001.
  • أعماله محفوظة في متاحف مرموقة، منها: المتحف الوطني في كراكوف، متحف المتروبوليتان في نيويورك، المتحف البريطاني، متحف ألبرتينا في فيينا، المكتبة الوطنية الفرنسية في باريس، وغيرها.

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى