جاليري

لوحة “مكنة الخياطة” والثورة التعبيرية التجريدية عند الدكتور مصطفى الفقي

مقال الجمعة (1 - 3) بقلم: عبد الرازق عكاشة، باريس - متحف دارنا

ألف ألف شكر للأستاذة الدكتورة أماني فهمي على إرسال صورة العمل، المعروض في قاعة أفق، ضمن المعرض الاستعادي الذي أسّسه وأشرف عليه الفنان والناقد ياسر جاد، تكريمًا للأستاذ الدكتور الراحل مصطفى الفقي.


قدماي تثبّتتا داخل مربّع السيراميك الأرضي،
بلا حركة. خرساء.
حالة من الثبات والصمت لا تهزّها حركة الجمهور القليل العابر.

عيناي غرقتا في مسافة ضوءٍ لا تنتهي.
صوتُ الضوء شجيّ، حزين، موجع، وحالم.
قد يبدو للمتلقي أنه ينتهي عند إطار اللوحة،
لكن لبعض القليل منّا، يبدو أنه لا ينتهي، لأنه مرتبط بالزمن، بالحكاية.

النور يخترق طريقًا طويلًا وعرًا من العتمة.
والعتمة؟ ظلام المبصرين.
الأمل يشقّ طريق التعب، الظلم، والإرهاق.
أما الظلال والعتمة التي تحيط بالنور فهي ظلام فوق ظلام،
حتى تشكّلت قصيدة الوجع.

نصوص من أبجدية الشقي،
حروف من ديوان الصبر والسهر.

الظلام يلتحف الزمن،
ويلفّ أنيابه حول النور،
لكن بقسوة رهيبة،
ممتلئة بالأحاسيس والمشاعر.


أما النقاد،
العابرون صامتون،
صمتُ القصور المهجورة.

قلبي يصرخ ويسألهم:
أيها العابرون، ألم تسمعوا صوت الصرخة؟ ألم تحسّوا بألم الرحلة؟
الخياطة… صوت مكنة الحياكة!
كيف لا تُبصرون؟
أو حتى لا ترون أنها أقوى من لوحة الصرخة للفنان إدفارد مونك؟

نعم، لقد عبّر مونك عن وجعه،
صرخته المؤلمة في زمن ما بعد الحروب العالمية،
حين كانت التعبيرية تصطدم بثورات جمالية ودرامية في فلسفة أوروبا.

أما الدكتور الفقي، فقد عبّر عن صرخة الإنسانية،
عن وجع الأمومة،
ليل القهر،
والسعادة التي تضيء ظلام قلوب الظالمين.

عبّر عن صراخ طبقة اجتماعية تلاشت وانتهت،
مرحلة تاريخيّة مختلفة،
لكنها، رغم الاختلاف، متشابهة في الأزمات.


الدكتور الفقي، الذي حضر حرب اليمن وعاش هزيمة ٦٧،
ربما ألقى بإسقاطٍ زمني درامي على المعالجة اللونية للعمل.

من هنا، تأتي قوة الصرخة التي تُسمَعها العين
حين تتأمّل حجم الظلام الذي يقف حائلًا أمام رغبة النور.

نعم، إنها لوحة تحتوي على كل معاني التعبيرية التجريدية، بجدارة.
فيها من المشاعر العميقة ما هو موجِع، ومالح، وقاسٍ،
رحلة سفر في عمق القسوة الإنسانية،
داخل آلة الزمن…

“مكنة الخياطة” هي الضوء الصارخ،
الفرج المنتظر،
التحدي المبهر،
الحلم المدهش.


يا إلهي، ما كل هذه الدراما؟!

كما تقول د. أماني فهمي،
رغم خلو اللوحة من العنصر البشري،
لكن… وبعد التأمل،
امتلأت حدقة عيني بعطر السيدة التي اختفت في الظلام.

راجعت اللوحة، تأمّلت الفراغ،
السيدة تجلس… لكن الفنان غرسها،
غرسها وسط الظلام، وسط القهر والظلم.

أدعوكم للوقوف عشر دقائق، عشرين، خمسين… ربما! أمام اللوحة.
سوف تكتشفون ما لم يره أحد من قبل.


وأخيرًا…

السيد وزير الثقافة،
أعلمُ جيّدًا أن هذه واحدة من أهم أعمال الفن التشكيلي المصري،
ويجب أن تكون في صميم متحف الفن الحديث،
بأيّ ثمن.

إنها لوحة متحفية إنسانية بدرجة العالمية.
وأقول لكم سرًّا، من واقع خبرتي الطويلة في زيارة متاحف العالم:
هذه اللوحة، من حيث القيمة الإنسانية،
في كفّة،
ونصف لوحات ما يُسمّى بالروّاد في كفّة أخرى.

خسارة رحيل الفنان أحمد فؤاد سليم، رجل الوعي التشكيلي،
وإلّا لما ترك هذه اللوحة الإنسانية الرهيبة دون أن يضمّها إلى المتحف.


الله يرحمك، د. مصطفى الفقي.
لقد أدخلتنا محراب نور عميق، بعيد، لا ينتهي،
وكأننا على عتبة الزمن، نرى نورًا قادمًا من قبلة الروح،
من معبد التصوف.

وأخيرًا،
سألت قدماي، جسدي:
كيف أعبُر دون أن أقف هنا؟
ربما ساعة، ساعتان، ثلاثة… وربما أسبوع، أو أشهر.
لكن مهما رسم الزمن خطوطه،
لا يمكنه أن يوازي الدراما والوجع في لوحة،
أقوى من “الصرخة” للفنان النرويجي إدفارد مونك (1893).

مصر – باريس

عبدالرازق عكاشة


مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى