جاليري

في حضرة التشكيلية السودانية ياسمين عبده: عندما يصير اللون صمتًا ناطقًا ويفرض الضوء عزلته

بقلم الفنان والناقد السوداني: د. كمال هاشم، كيغالي.

ثمة لوحات تُرى. لوحاتٌ تلامس الحواس، وتتسلل كأنها موسيقى خافتة في مسرح مهجور. هكذا تتجلى أعمال ياسمين عبده؛ الفنانة الملونة القادمة من قلب كلية الفنون الجميلة بجامعة السودان للعلوم والتكنولوجيا، تحمل بين يديها مشهداً بصريًا يسكن اللوحة ويمتد إلى الروح، كما تمتد الظلال الخفيفة خلف كواليس حلم قديم.
تُذكرنا عوالمها بمسرح البانتومايم، حيث الصمت أبلغ من القول، والحركة المعلقة في الهواء تحتفظ بسرّها. شخصياتها لا تتحدث، لكنها تُقيم حوارات كاملة مع الضوء، مع الكرسي، مع الستارة، مع العتمة. كل لوحة كأنها فصل من مسرح داخلي بلا جمهور، تُضاء فيه الطاولة بشمعة واحدة، ويتحرك فيه الألم بهدوء الخشبة التي تعرف وجوه الغياب.
«نحن نحب الحياة إذا ما استطعنا إليها سبيلا»، يقول درويش، وترد اللوحة بإضاءة فسفورية تكاد تهمس: لكننا لا نملك منها إلا ظلها.
و«أحنّ إلى خبز أمي…»، تقول القصيدة الأخرى، فترد لوحة ياسمين بسرير وحيد يتساقط عليه ضوءٌ أصفر من مصباح يتدلّى كقلبٍ معلق.
ياسمين ترسم لتُقيم حفلاً صامتاً، حيث كل لون يؤدي دوره بتوتر درامي عالٍ. باليتتها اللونية جريئة ومتمردة؛ ألوان متوهجة حارة تقفز وسط برودة المشهد، تمنحه هالة تشبه الحلم، أو الرؤيا. الضوء هنا شريك أصيل في السرد، وشخصية محورية ضمن النص البصري.

منذ مشروع تخرجها، بدت ملامح هذا المسار واضحة. كانت الأعمال تنطق بما يشبه النبوءة، وكان التشكيل يسير جنبًا إلى جنب مع الشعر: كل لون بيت، وكل ظل استعارة. ومنذ تلك اللحظة، بدأت ياسمين تكتب نصها الخاص، خارج السودان وداخله، في صالات عرض مرموقة احتفت بتجربتها، وأبقت أبوابها مشرعة لها.

ياسمين عبده لا تتعجل الخطى، لكنها تترك أثرًا لا يُمحى. في لوحاتها، الحياة تُروى وتُلمَح. وكل من يدخل عوالمها، يعود محمّلًا بشيء لا يعرف كيف يسميه، لكنه يبقى معه… مثل ضوءٍ خافتٍ في حلم لم يكتمل.
كمال هاشم
كيغالي. يوليو 2025

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى