جاليري

خزفيات ليلى آدم: تأملات مبدعة في الثقافة والتاريخ والهوية السودانية

بقلم الفنان والناقد السوداني: كمال هاشم، القاهرة

في عوالم الطين والنار، حيث يتماهى التراب مع الخيال، تنحت الدكتورة ليلى آدم رؤاها الخزفية كأنها تواشيح مرئية، تتغنى بها الأشكال على جسد الزمن. خزفياتها أناشيد للهوية، مكتوبة بيدٍ تعرف سرّ التراث، وعينٍ لا تخشى الغوص في مجازات الحداثة، لتنتج بذلك لغة بصرية فريدة تتحدث عن السودان والإنسانية معاً.
تتكشف أعمالها في ازدواجية آسرة: مزيج بين التشخيص الحالم والتجريد الحكيم. رؤوس بشرية مبسطة، بملامح قناعٍ نوبي أو أفريقي، تتكرر وتتراص كأنها أرواح معلقة بين الأرض والذاكرة، بين الماضي الذي لا ينمحي، والحاضر الذي يحاول أن يستدرك ويعي. تلك الرؤوس، غالباً ما تتخذ شكل مجموعات صامتة، تتبادل نظرات خفية، توحي بطقسٍ ما، أو احتشادٍ رمزي يهمس بأسرار الجماعة والانتماء والأسلاف، مما يفتح نافذة على الروح السودانية بكل تعقيداتها وتناقضاتها.
سطوح خزفياتها تحكي بلسان الألوان والتركيبات، من الأسود المطفي إلى الترابي الحي إلى لمعان معدنٍ يخدع العين ويوقظ الحواس. الطلاء في أعمالها هو غلاف وهو كذلك جلد آخر ينبض بحكاية الأشياء، يعكس النور مثل مرآة قديمة، ويمنح القطع عمقاً بصرياً يجعلها تتغير مع كل زاوية نظر، مما يوفر تجربة حسية متجددة للمشاهد.
في أعمالها، يظهر الرأس البشري كعنصر جمالي وككائن رمزي مشحون بالمعنى. الرأس هنا هو الذاكرة، والهوية، والذات. هو الأنا التي نجت من الطمي والنار، وحملت فوقها نقش القبيلة ووشم الحكاية. أما الزخارف الهندسية المنقوشة أو المصقولة، فتستحضر جماليات الفخار والنقوش السودانية، لتربط بين فن الماضي وألق الحاضر، فتُجسد بذلك تواصل الزمن وتداخل الثقافات.
ليلى آدم تصنع الخزف وتجعل من خاماته لغة للحوار بين الثقافات، ومساحة للتفكر في معنى الجماعة، وقلق الفرد، وجدلية الزمن. تتكرر الأشكال، تتجاور، تتباعد، وكأنها تكتب قصيدةً عن الطقوس والتكرار، عن لحظة مقدسة تتجدد كلما تأملناها من جديد، مما يعكس فلسفة عميقة في فهم الحياة والهوية.
هنا، في هذا العالم الطيني المشغول بصبر، يلتقي الحس الإنساني بما هو غيبي، وتصبح خزفياتها أشبه بمزامير صامتة، تدعونا للتأمل في هشاشة الوجود وقوة الذاكرة، في مرآة الفرد داخل الجماعة، وفي السؤال الأبدي: من نحن، وأين نقف بين الأمس والغد؟
ليلى آدم فنانة خزف وكاتبة طينٍ، ومؤرخة أشكال، وراهبة تقف في محراب التراب والنار. منذ تخرجها في كلية الفنون الجميلة بجامعة السودان للعلوم والتكنلوجيا عام 1996، وهي تخط طريقها بعزم لا يلين، وبعينٍ ترى في الطين ما لا يُرى. نالت الدكتوراه في التصميم والخزف عام 2012، وها هي اليوم أستاذة مشاركة ورأست قسم الخزف بذات الكلية، كما تمثل السودان بجدارة في المحافل الدولية كعضو في الأكاديمية الدولية للسيراميك بجنيف منذ 2023.
من السودان إلى قطر، ومن ألمانيا إلى تركيا، عرّفت ليلى آدم العالم على لغة خزف سودانية الطابع، حداثية الروح. معارضها الفردية والجماعية هي شهادات حضور ومحطات نور في سيرة فنانة تحتفي بالتراث كمستودع للحنين وكطاقة للإبداع.
الخزف كحوار بين الماضي والحاضر
في أعمالها، لا ينتهي التشكيل عند الطين، بل يبدأ منه. فهي تبني على ما مضى، وتحلم بما يمكن أن يكون، في محاولة جريئة لتقريب المسافة بين الجذور والسماء. من خلال كل منحنى، وكل نقش، تعيد ليلى آدم كتابة ذاكرتنا، وتعيد تشكيل الذات السودانية في قالب فني معاصر ينبض بالحياة.
هكذا تُنقش ذاكرتنا من جديد، على يد خزّافة سودانية مبدعة، تعيد كتابة الذات في كل قطعة… كل وجه… كل انحناءة ضوء على طينٍ كّتبت له حياةٌ خالدة.
كمال هاشم
القاهرة. يوليو 2025

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى