أحداثأدب

الورود، الخراب، والمقاومة: قراءة في رواية (حديقة خلفية) لأشرف أبو اليزيد

بقلم: الدكتور كيشاب سيجدل – نيبال

الدكتور كيشاب سيجدل – نيبال

رواية حديقة خلفية لأشرف أبو اليزيد عمل إنساني عميق النبرة، متعدد الأصوات، تدور أحداثه في مصر المعاصرة، حيث ينسج الكاتب بخيوط بارعة حياة شخصيات قرية كفر السراي، مع تركيز خاص على شخصية السيد كمال الغامضة، بطل حركة الاستقلال المصرية الذي انسحب من الحياة العامة ليعيش بين أهله.

أشرف أبو اليزيد، المعروف أيضًا باسمه الأدبي (أشرف الدالي)، صحفي وشاعر وروائي ومترجم مصري بارز، يمتد عطاؤه لأكثر من ثلاثة عقود في العالم العربي وخارجه. وُلد في مصر عام 1963، ويشتهر بقدرته على المزج بين الحس الشعري والعمق الفكري، مستكشفًا قضايا المنفى، والهوية، واللغة، والحوار الثقافي. نشر أكثر من أربعين كتابًا في الشعر والرواية وأدب الرحلة، وتُرجمت أعماله إلى عدة لغات. تقلّد مناصب تحريرية مرموقة، منها رئيس تحرير سلسلة “إبداعات طريق الحرير”، وحاز العديد من الجوائز الدولية، مثل جائزة مانهي للأدب في كوريا الجنوبية وجائزة الصحافة العربية في دبي.

في رواية حديقة خلفية، تتعدد زوايا السرد بين التأملات الشعرية، والواقعية الساخرة، واللمحات الحميمية إلى حيوات تتصدع تحت وطأة الحداثة والحنين والتغير الاجتماعي. تمزج الرواية تفاصيل ثقافية غنية مع الذاكرة الشخصية، والتعليق السياسي، والتأمل الفلسفي، في نسيج شعري طموح.

يُقدَّم السيد كمال بوصفه شخصية نبيلة ومنطوية، رمزًا للمثالية المصرية ما بعد الثورة. ورغم كونه مفكرًا بارزًا ومسؤولًا حكوميًا سابقًا، اختار الانسحاب من المشهد العام ليتفرغ للتعليم وإدارة ضيعته الريفية. كرمه وسخاؤه ووحدته العاطفية (بعد وفاة زوجته وبقائه بلا أبناء) جعلت منه شخصية مأساوية لكنها مهيبة.

“كان القصر يبدو وكأنه من خيالات ألف ليلة وليلة… جنة بلا ناس ما تنداس” (ص 8–9).

يلخص هذا التعبير المرجعي الفكرة المركزية في الرواية: وهم اليوتوبيا من دون دفء بشري، وانهيار البُنى الاجتماعية مع تفكك الروابط المجتمعية.

يختفي السيد كمال فجأة في أيام العيد، فيُحدث ذلك رجّة في أركان القرية المترابطة. فصل “خريف الغياب” لوحة بارعة من القلق الجماعي، حيث يبحث الأهالي – وبخاصة الإمام الحكيم الحاج سمنودي – عن معنى فقدان راعيهم.

“حالهم يُبكي. أنت لك راتب من الوزارة… لكن من يؤوي هؤلاء الفقراء لولا السيد كمال؟” (ص 15)

يلتقط أبو اليزيد ليس فقط الاعتماد المعيشي للقرويين على كمال، بل أيضًا ارتباطهم العاطفي والرمزي به.

مجدي، المهندس الزراعي البسيط وعاشق الكتب، يصبح شخصية محورية في اقتصاد الرواية الرمزي عن الحب والواجب. إخلاصه للحديقة، وعشقه لابنة شقيقة كمال – كاميليا – يُنقل عبر استعارات نباتية:

“كان يرى الورود كائنات بشرية… حتى إنها ترفع أبصارها إلى الغيم فوق رؤوسها فلا ترى شيئًا” (ص 36–37)

هذا المقطع الشعري يعبّر عن الانفصال بين الجمال الروحي (المتجسد في الورود) واللامبالاة المادية (الممثلة في القرويين). دور مجدي كقيّم على الحديقة وإرث كمال يجسد جوهر الرواية: خدمة صامتة للجمال والإنسانية.

وتحمل إحدى الحبكات الفرعية قصة عبد الحفيظ، ابن الحاج سمنودي، الذي يقع فريسة للطموح الرأسمالي والانحراف الأخلاقي. يضغط عليه كفيله الخليجي أبو خالد لشراء ضيعة كمال وتحويلها لمشروع سياحي، فيتزوج عبد الحفيظ من سعودية (رجاء) في علاقة مصلحية تباعد بينه وبين زوجته الحبيبة حنان وأطفاله.

“رأى في فخذ الضأن ذراع زوجته أم سعد … داهمه قيء شديد” (ص 63)

هذا المشهد الحسي في وليمة زفافه على رجاء يجسد عذاب غربته الروحية. إنها صورة مؤثرة عن الاغتراب في عصر العولمة والرأسمالية المفرطة.

Reading Ashraf Aboul-Yazid’s A Backyard Garden

أما كاميليا، الملمة بالفلسفة الهندية واليوغا والأدب السنسكريتي، فتتحدى الأعراف الذكورية والمحلية. علاقتها بمجدي روحية وجسدية، وتبلغ ذروتها في ليلة زفاف لا تُنسى:

بدأت كاميليا بخلع ثيابها، قطعة قطعة، وفق الرسوم في كتاب الكاما سوترا…

“قل لي، يا مجدي، من أين نبدأ؟ ” (ص 105)

اتحادها بمباركة كاما سوترا لا العادات المحلية يمثل مجازًا للتلاقح الثقافي والتحرر الفردي.

تبلغ الرواية ذروتها في المواجهة بين السيد كمال وأبو خالد، المستثمر العقاري الساعي لتحويل السراي إلى منتجع فاخر:

“هذا البيت هو عمري كله .. وأنا لا أبيع عمري مقابل النقود، أي نقود” (ص 103)

تصبح مقاومة كمال وقفته الأخيرة ضد تسليع التراث والهوية. القصر، مثل الحديقة، رمز للجذور والذاكرة وروح مصر.

بترجمة أنيقة لمحمد حارث وافي، تأتي الرواية شعرية، فلسفية، وعميقة الإيحاء. مواسمها – خريف الغياب، شتاء العشق، ربيع السفر، وصيف العودة – تعكس الإيقاعين العاطفي والسردي للعمل. الحديقة ليست مجرد مكان مادي، بل مجاز لزراعة الذات، والسراي تمثل قلب الروح المصرية المتنازع عليه.

حديقة خلفية ليست مجرد حنين إلى حياة ريفية، بل هي مجاز عميق عن تآكل القيم أمام الحداثة، وتسليع الأرض والحب، وقوة الجمال والوفاء والذاكرة الباقية.

تترك الرواية صدى قويًا لدى القراء المنشغلين بفقدان الثقافة، والظلم الاقتصادي، والمساحات الهشة التي يلتقي فيها الحب والفن والمقاومة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى