
تتجسد في أعمال الفنان السوداني محمد فضل الروح السودانية بكل ما تحمله من تنوع إثني وثقافي، عبر بورتريهات تتجاوز حدود التشخيص المباشر إلى بناء خطاب بصري أنثروبولوجي يتقصّى تفاصيل الهوية السودانية في تنوعها المدهش. فالفنان لا يكتفي برسم ملامح الوجوه، بل يلتقط من خلالها طبقات من التاريخ، من الحكايات الشعبية، ومن اليومي العابر الذي يتحول في لوحاته إلى أثر بصري خالد.
تتحرك أعماله في مساحة دقيقة بين الواقعية التعبيرية والتوثيق الجمالي، حيث يذيب الحرفية العالية في رسم الملامح مع معالجة لونية تنبض بالحرارة والثراء. الألوان في لوحاته هي خطاب بصري مستقل يضيء البنية الشعورية للشخصيات، كاشفًا عن حالات من الصبر، الفرح، الحنين، والحكمة المتوارثة عبر الأجيال.
تبدو الوجوه وكأنها خرائط حية لتاريخ السودان المتعدد: رجال بعمائمهم البيضاء، مصبوغة بلون التراب أحيانا، تحمل وقار الأجداد، نساء متشحات بألوان قوس قزح الدارفورية أو النوبية، أطفال بعيون متسائلة تحمل براءة الحاضر وغموض المستقبل. كل تفصيلة تفتح بابًا لفهم أطياف المجتمع السوداني، وكأن محمد فضل يضع المشاهد أمام أطلس بصري للهوية، يرسمه بالريشة بدل الكلمات.
يتجلى في هذه البورتريهات الانحياز للإنسان بوصفه مركز اللوحة، بعيدًا عن التجريدات البحتة أو الانغماس في الطبيعة الصامتة. هنا يتأسس جمال العمل في ملامسة التجربة الإنسانية ذاتها: تجاعيد الزمن على وجه شيخ، بريق أمل في عيني شابة، أو دفء العائلة في مشهد أم تحتضن أبناءها. إنها مشاهد تنقل المتلقي من التلقي البصري إلى المشاركة الشعورية.
كما أن حساسية الفنان تجاه الضوء والظل تكشف عن تمكنه من تقنية الكياروسكورو Chiaroscuro (وهي تقنية فنية تقوم على التباين بين الضوء والظل لإبراز العمق وإضفاء بعد ثلاثي وحيوية درامية على الشخصيات أو الأشياء في اللوحة) في صياغة الأشكال، حيث يعمّق المساحات اللونية ليمنح الوجوه أبعادًا نفسية لا تقل أهمية عن بعدها التشكيلي. هذا التداخل يجعل اللوحة تنطق، بحيث لا تبقى مجرد صورة، بل وثيقة بصرية نابضة بالحياة.
تكتسب هذه الأعمال قيمة إضافية من حيث كونها جهدًا توثيقيًا غير مباشر للوجوه السودانية التي قلّما حظيت بتمثيل عالمي. فهي لا توثق أفرادًا بذواتهم بقدر ما تجسد جماعة بشرية كاملة، بتنوعها الإثني والثقافي، لتؤكد أن السودان بالفعل “أفريقيا المصغرة”.
محمد فضل لا يرسم البورتريه بوصفه مرآة للشبه، بل كحكاية متكاملة، كجغرافيا وجدانية. كل لوحة هي قصيدة لونية تصدح بروح المكان والناس، ليكرّس نفسه واحدًا من أبرز روّاد تصوير البورتريه في الفن السوداني المعاصر، وفنانًا ينجح في إعادة صياغة العلاقة بين الفن والأنثروبولوجيا عبر وسائط اللون والخط.
بهذا المعنى، يمكن قراءة أعماله كمنجز جمالي، وكإضافة فكرية وثقافية للمشهد التشكيلي، حيث تتقاطع فيها أسئلة الهوية، الذاكرة، والإنسانية، لتبقى لوحاته شاهدة على حكاية السودان بوجوهه المتعددة، وعلى شاعرية الفنان في التقاط جوهر الإنسان العابر للزمن والمكان.
كمال هاشم. سبتمبر 2025