
أود أن ألفت انتباهكم إلى القضايا الإنسانية المحورية في حضارتنا المعاصرة، التي ينبغي أن تُفهم اليوم بوصفها مشكلة عالمية تتعلق ببقاء البشرية والحفاظ عليها، إذ إن مفتاح أمن التنمية يجب أن يُبحث عنه في المجال الإنساني.
والغاية من ذلك هي اعتماد نماذج استراتيجية للتنمية، بروتوكولات جديدة للتفاعل، تجاوز المخاطر والتحديات القائمة، وصياغة أجندة عالمية يدركها الجميع. ففي ظل غياب رؤية استراتيجية على منصات اتخاذ القرارات التي تهم الجميع، ومع ضعف المنظومة الروحية والأخلاقية، يلوح خطر إعادة النظر في علاقات الذات والموضوع القائمة بين الإنسان والطبيعة والمجتمع، بما يؤدي إلى تَغريب الحضارة، وفقدان الإنسان لذاتيته وهويته، وعجزه عن التحكم بالأنظمة الاجتماعية-الثقافية الكبرى.
اليوم، يُعد هذا الموضوع الأكثر سخونة في البحث عن استراتيجيات إدارة جديدة، ويبدو أن المخرج الوحيد من حالة عدم الاستقرار التي تعانيها النظم الاجتماعية-الثقافية الكبرى هو إعادة تحديد ذاتها، والدخول في نظام عالمي جديد متوافق عليه بين جميع الفاعلين، لتحويل المخاطر والتناقضات العالمية إلى أهداف أولوية للتنمية.
إن أجندة كهذه، إذا ما نوقشت في منصات حوارية قائمة على الأدلة، بوصفها مستقبلًا مشتركًا، يمكن أن تؤدي دورًا منسقًا في نشوء عالم متعدد الأقطاب، حيث تُقبل الحقيقة والقيم الروحية-الأخلاقية باعتبارها مبادئ أخلاقية عليا، وموارد ومنظِّمات للتوجهات الهادفة للإنسان والدولة وللبشرية جمعاء.
ومن المعروف أن الإنسان، منذ أقدم العصور، وهو يتفاعل مع العالم، كان يعي كل خطوة يخطوها، وفهم منذ ذلك الحين أن هذا الوعي شرطٌ مسبق للتنمية. وكما قال سقراط: «اعرف نفسك، تعرف العالم كله». وباتباع هذا المبدأ، صاغ الإنسان المعاني، والعلوم، والثقافة، والفنون، والتقاليد، والقيم الروحية والأخلاقية، وملأ بها وعيه على نحو متسلسل. وقد عبر هذا الموضوع جميع مراحل الوجود في فضاء الحضارات المحلية، التي تواصلت أو أزاحت بعضها البعض.
وعند التطرق إلى مسألة منهجية المعرفة، ومن خلال استلهام تاريخ الفكر العلمي، أؤكد أن فاعلية التفكير في كل مرحلة كانت دائمًا مشروطة بقوة فعل الفئات والقوانين والضرورات، التي كان تفاعلها المستقر عبر وعي الإنسان يحافظ على كينونتها واستقلاليتها. كما أن المجتمعات التي تمكنت، على أساس علمي، من تنظيم وظائف الإدارة بشكل منظومي، كانت الأكثر بقاءً في مسار التطور التاريخي. ومن هنا، فإن الأهمية المنهجية لوظيفة المعرفة حاضرة دائمًا ويجب أن تُؤخذ في الاعتبار في كل شيء.
يُظهر التحليل التاريخي أن الإنسان كان دائمًا يبني صورة لاستقرار منظومة المفاهيم، ومع توسع الآفاق العلمية-الثقافية والجغرافية والتفاعلات، برز موضوع وحدة وتنوع البشرية، وإدارة هذا التعدد كانت دائمًا تُعرف بالإنسانية، حيث ظل الإنسان هو الفاعل الرئيس فيها. وليس من المصادفة أن معظم تعريفات الحضارة تتكون من مفهومي «الإنسان» و«الثقافة».
أما اليوم، فإن أحادية القطب في إدارة هذا التنوع والتعقيد الاجتماعي-الثقافي، بما يعني خضوع الدول الأخرى لهيمنة واحدة، هي تناقضٌ منهجي وخطرٌ عظيم على البشرية جمعاء، إذ إن البسيط لا يمكنه أن يُدير المعقد، ووفق الأساس العلمي لا يجوز أن تكون بساطة الفاعل الإداري أدنى من تعقيد موضوع الإدارة. وليس من قبيل الصدفة أن قال فلاديمير بوتين في ميونيخ عام 2007: «إن النموذج أحادي القطب ليس مقبولًا فحسب، بل هو مستحيل أصلًا».
مع ذلك، فإن نشوء عالم متعدد الأقطاب سيكون عملية معقدة وطويلة تتطلب تفاعلات صعبة. وقد ترك لنا المفكرون القدماء في الشرق والغرب إرثًا ضخمًا من العلم والثقافة، باعتباره نموذجًا للتأمل والتطوير، حيث عرّفوا الإنسان بوصفه كائنًا عارفًا، حاملًا للأخلاق، و«مقياس كل الأشياء».
لقد أدخلت هذه القيم والثقافة، بما هي المجال الأكثر دلالة ومعنى، عناصر الاستقرار والتوقع في حياة الإنسان، وشكلت وحدات وشعورًا بالانتماء إلى كليات كبرى. ومنذ العصور القديمة، وعلى مختلف القارات وفي ثقافات شتى، طُرح سؤال «ما الإنسان؟» وهو السؤال الذي استمر عبر التاريخ البشري، في تقلبات الخير والشر، الحرب والسلام، الحب والكراهية، ميلاد وموت الملايين.

واليوم يبرز السؤال الحضاري الأكبر: هل يكفي النظام العالمي الحالي والموارد البشرية القائمة لتحديد الإمكانيات الأساسية للتنمية والإدارة؟ وهل تتوافق الفوضى غير المُدارة في «واقع عالمنا المعاصر» مع الطبيعة النوعية للإنسان؟
إن العالم بأسره بحاجة إلى تحديث إنساني، يكون شرطًا وقائيًا ضروريًا لنجاح أي إصلاحات واسعة النطاق، بحيث يخلق فضاءً إنسانيًا جديدًا، يصبح فيه الإنسانية مبدأً معترفًا به عالميًا لتطور الفرد وحفظ الثقافات والشعوب كافة.
ومن دون مراعاة القيم والمعاني التي يتمسك بها الشعب، ستظل تجارب الإصلاح غير ناجحة أو ناقصة، وقد حدث ذلك مرارًا في روسيا وغيرها من البلدان. ولهذا فإن التحديث الإنساني يُعد من أهم القضايا الحضارية، وهو ركن أساس في النماذج الاجتماعية-الثقافية، سواء من حيث التحديد الذاتي الروحي-الثقافي للمواطنين (بما في ذلك الحفاظ على التراث الثقافي واللغة والتعليم والهوية)، أو من حيث دمج معانٍ جديدة في الوعي الجمعي.
في جوهره، يوجه التحديث الإنساني إلى العالم الداخلي للإنسان، إلى وعيه الأخلاقي، حيث تُستخلص وتُحفظ على أساس الخبرة الروحية والثقافية للإنسان والمجتمع، الأسس العلمية والأخلاقية للتنمية الحضارية، والسيادة والهوية باعتبارها ركائز لا تتزعزع للبشرية المتعددة القوميات.
هذه المقاربة ضرورية للحفاظ على التماسك في ظل تصاعد التوترات في العالم وتفاقم الهويات المختلفة، التي تؤدي إلى تفكك الوحدات الاجتماعية الناشئة، وانحلال المنظمات المجتمعية، وانهيار شخصية الإنسان بوصفه المحرك الأساسي للتنمية.

إن التحديث الإنساني، بوصفه ضرورة لاستدامة التطور الحضاري، قادر على تجاوز عصور كاملة ومراتب حضارية، واستعادة الإثنيات، وحفظ المعاني، والمساهمة في ارتقاء البشرية على سُلم العقل نحو وعي كوكبي موحد وتنمية نوسفيرية. واليوم يمكن، بل يجب، أن يُفهم هذا التحول بوصفه انتقالًا نحو وحدة العالم، بما يتيح مواجهة مشكلات الحرب والأوبئة والجوع، ليكون ذلك مظهرًا من مظاهر الوعي النوسفي وأولويةً مطلوبة للتنمية الروحية-الأخلاقية والثقافية، وضمانًا للاستقرار والتوقع والأمن، بما يشكل «نظامًا معنويًا لفهم العالم والإنسان والحياة، مع الحفاظ على هوية الطبيعة الإنسانية ذاتها».
إن تقنية التحديث الإنساني هي الشرط الوقائي الأشد ضرورة للنظام العالمي الجديد. ويجب أن تُنفذ في عمليات التعليم على جميع المستويات، وفي أشكال التنوير الثقافي، وأن تُوجه عبر الدبلوماسية الثقافية والعلمية غير الرسمية، وأن تُدمج في تشريعات الدول وبرامجها الاجتماعية وأمنها المعلوماتي، مع الاستبعاد الكامل من الترسانة الروحية للبشرية لكل المفاهيم المتعلقة بالاستثنائية القومية، والفاشية، والإرهاب، والتعصب الديني.
في مطلع القرن العشرين، قال تيار دو شاردان، وهو يتأمل في مفهوم «النوسفير»: «لا أحد في العالم يستطيع أن يقف ضد العقول المتحدة، وإنما السؤال هو: بماذا شُغلت تلك العقول؟»
ويبدو لي أننا سنتمكن قريبًا من الإجابة عن ذلك، وتحديد اتجاه تطور الإنسان والبشرية نحو حضارة المعاني ونظام أخلاقي جديد، باعتباره الهدف الأسمى للإنسانية جمعاء، لكل شعب ولكل فرد.
إننا لا نريد أن نشهد نهاية الإنسانية على أرضنا، ولا انهيار كل ما أبدعته. وحده الإنسان الأخلاقي، الواعي والمسؤول، هو الضامن لبقاء الحياة البشرية وحضارة ذات وجه إنساني. ومن أجل ذلك أُنشئت اليوم هذه المنصة الحوارية القائمة على الأدلة، بغرض تشكيل بنية تحتية للفكر الاستراتيجي.

الدكتورة ألكسندرا أوتشيروفا، الرئيسة المشاركة للمجلس العام لجمعية شعوب أوراسيا، وعضو في اللجنة الحكومية للاتحاد الروسي لدى اليونسكو، وسفيرة النوايا الحسنة لليونسكو (روسيا).