اللوحة كطقس بصري : قراءة في تحولات اللون والجسد عند الفنانة التشكيلية الليبية سعاد اللبه
بقلم: صلاح راشد، كاتب من ليبيا

في هذه اللوحة التي تحمل توقيع وتجربة الفنانة التشكيلية الليبية سعاد اللبه ، يتخذ الجسد هيئة شعلة بشرية تتسلّق خيطا ذهبيا ممتدا نحو غيب أعلى ، كأنها تتشبّث بمحور سرّي يربط الأرض بعصب الضوء . فالألوان ليست مجرد خلفية ، إنما هي تيارات طاقية متدفقة ، تتلوّى حول الجسد كما تتلوّى الرياح الحارقة والمياه الباردة في عناق متوتر، حيث يتجاور الأزرق البارد مع البرتقالي المشتعل ، والأخضر المضيء مع الأصفر الفوسفوري ، في تداخل يعكس صراع العناصر وتآلفها في آن واحد . كما أن الكتلة اللونية هنا ليست صامتة ؛ فهي تتحرّك ببطء كثيف ، مثل سحابة نارية تتفتح من قلب الظلام . والنار ، في تدرجاتها البرتقالية والحمراء ، تصعد من الأسفل كذكرى عنيفة ، بينما الأزرق والأخضر يتسللان كتيارات خلاصية ، وكأن اللوحة تعيد تمثيل مسار الروح من الاحتراق إلى الصفاء ، ومن الانجذاب إلى العمق إلى الانطلاق نحو الفضاء . الجسد الأنثوي ، شبه المذاب في محيطه ، ليس كيانًا منعزلاً ، بل هو مركز التفاعل ، ونقطة الانكسار التي تتقاطع عندها الطاقة الحسية بالرمزية . هنا ، يتحول الجسد إلى محور جاذبية للألوان ، فتلتف حوله كما يلتف المعنى حول الأسطورة ، وكأن اللوحة تصوغ لحظة عبور بين العالَمين : عالم النار التي تلتهم ، وعالم الضوء الذي يحرّر . العمل من الناحية البصرية يشتغل على التناقض الدينامي – الحركي بين دفء اللون وبرودته ، وبين كثافة الكتل وسيولة الامتدادات ، ما يمنح العين تجربة حركية مستمرة ، ويجعل المتلقي في حالة شد لا يهدأ ، كأن اللون نفسه يمارس فعل التسلق إلى الأعلى . وهنا تكمن قوة اللوحة : في أنها ليست مشهدا مرسوما فحسب ، إنما هي طقسا بصريا حيّا ، يوظف علم اللون ، وانعكاساته الفيزيائية والنفسية ، ليعيد تشكيل الحواس على إيقاع صوفي ، يتجاوز الجسد إلى الفكرة ، ويتجاوز الفكرة إلى النور . نلحظ تطور الفكرة البصرية عند الفنانة سعاد اللبه خلال هذه السنوات ، والذي لم يكن وليد الصدفة ، إنما جاء ثمرة مسار طويل من التجريب والخبرة ، ومن الاحتكاك المباشر بالحقل التشكيلي المحلي والعالمي . إن مواكبتها الدؤوبة للمعارض الفنية ، سواء من موقع المشاهدة أو المشاركة ، قد منحها حساسية نقدية وبصرية عالية ، جعلتها تعيد التفكير في العلاقة بين الجسد واللون ، بين الطاقة التعبيرية والفضاء التشكيلي .
إن إقامتها في الخارج واغترابها الدراسي مع اللون أضاف لها بعدا آخر إلى تجربتها ، إذ تماهت مع تاريخ الفن الأوروبي بكل زخمه اللوني والمدرسي ، وفتحت لنفسها أفقا يزاوج بين جذورها البصرية المتوسطية وانفتاحها على الإرث الفني الغربي . ففي لوحاتها يظهر هذا التلاقح جليا : فهي لا تنقل الألوان نقلاً تقليديا ، بل تفككها وتعيد تركيبها كأنها كائنات حية تتنفس وتتصارع وتتعانق . الأزرق عندها لم يعد مجرد لون للبرودة ، بل صار طاقة خلاصية ، فيما يتحول الأحمر إلى احتراق داخلي ، والأخضر إلى وعد بالحياة المستمرة . ولو رجعنا إلى بعض لوحاتها السابقة وعلاقتها بالتجريد التعبيري نجدها محمولة على حس روائي داخلي ، فهي قد تحكي عن بشر في حركة أبدية ، عن أجساد تتحول إلى إشارات ، وعن حياة تختبئ خلف قناع اللون ، حياة لا يمكن الإمساك بها إلا عبر الإنصات الطويل للخطوط وهي تنحني وتلتف ، وللفراغ وهو يمتلئ بالاحتمال ، وللوجوه وهي تذوب في ما يشبه صلاة صامته . بهذا التمرين المستمر على الإنصات للألوان ، وعلى خوض غمار التجربة الجمالية داخل فضاء عالمي ، استطاعت الفنانة سعاد اللبه أن تميز نفسها في المشهد التشكيلي الليبي والعربي بفرادة لونية واضحة ، تجعل من لوحاتها حقولًا مشتعلة بالمعنى ، ومفتوحة على قراءات لا تنتهي . إنها فنانة تُجيد تحويل التجربة الحياتية إلى معادل بصري ، وتجعل من اللون نصا فلسفيا يقرأ الذات والآخر في آن واحد . أجريت مع الفنانة سعاد قبل أكثر من ثمانية أعوام حوارا صحفي تناولت فيها بواكير تجربتها التشكيلية ، وما كانت تفتحه من أفاق بصرية أولى ، ومنذ ذلك الحين أخذت رحلتها في اللون تنمو بوتيرة متسارعة ومذهلة حتى غدت قدرتها على تفكيك الظلال وصياغة الانسجامات اللونية أشبه بانبثاق داخلي يتجاوز حدود الدهشة ، ويغدو صيرورة متوهجة ، تتقاطع فيها التجربة مع الكشف ، والبحث مع الالهام في مسار لم يتوقف عن التمدد والتجدد ، فحين نضع تجربة الفنانة التشكيلية سعاد اللبه في مقاربة لونية مع تجارب بعض الفنانين ، ندرك أنّها تنسج فرادتها من داخل حوار طويل مع اللون ككيان وجودي ، لا كأداة تقنية .