

منذ فجر التكوين في ترُاب الإنسانية وفياّض شغف السواقي، يسري منكَ، أنتَ .
عشتَ في مخيالي الطفولي، أتأبطكَ بحنو، كريشة طير تنسحب في الأفق وتمتدُّ.. تتمددّ إلى اللا نهائي ..
أخالكَُ مُتعانقاً مع الصبر والاجتهاد، في القوّة والشدائد، حيثما يمتزج الابداع بالتاريخ والعراقة بأصالة الهُويةّ.
كبرتُ، والبيتُ، يرتشف حضارة العصور وتأريخاً للبنان العظيم.
بامتزاج الأوردة يتدفقّ “قصر بيت الدين” ، من بواطن العقيق لتشُرق شمسه مُعتقّةً بالطمأنينة ويختزن الفيروز في أغوار … أغوار محار الانسانيةَّ.
بيت الدين يفتتح موسمه ٢٠٢٥ ، ليخبرنا عن لحظ المُرجان، ولؤلؤة المها تسُامر حبيبها البدر.
أظ نكَُّ منذ طفولتي، مُتعانقاً والملائكة، ومجالس الدراويش والمتصوّفين تحفظ “المواثيق”، وتستذكر… تعُيد.. تكُرِّّر .. ومن ثمّ تعُمِّل العقل لتقعير وتقعيد اللغة، كي تعُيد.
لن تسقطُ اللفظة في إلتباسٍ فقهي أو معنى لفظي، ولا يتغيرّ مسلك التوحيد.
الله بعزِّّه وجلاله، هُنا ، أزل ي أبدي سرمدي.
هُنا موطئ “كهرمان الحبور”، بوابتك المزدانة بفسيفسائك المرمريةّ، تتثاقف و غرناطة بقصروها الحمراء، وأسودها حارسة الأمجاد.
بحِّرفيةّ إزميل دقيق، يقيس سنتيمتراته وأنامله مشقوقة في الصدر ، صداً لعصرك البرونزي وزخارفك الإسلاميةّ، وفخارياتك عصراً حديدياً، وحُليك الذهبيةّ لزند أميرة مشرقية، معقودة ثيابها بجناح شرنقة، مُطرزة لنور و ديجور. لا أنتَ تمضي، ولا هي تحيد.
فطوبى لمن يرتشف من زجاجياتك الرومانية أقداحاً مُتعطّراً بزيت البخور، وينتشي بالمجد، كنواويسك الرصاصية مصقولة بزناد بارودة تتسلقّ جدرانكَ ، المصبوغة بفرادة النقش .
فهل سمعتُ رنةّ الصقل!
يشقُّ الإزميل طرف الضُ حى، صخرياً ناحتاً أخدوداً، وعرق نخلة لقبيلتي العربيةّ، وأشكالاً هندسيةّ ووريقات عربيةّ أصيلة، غناّء .
حِّرفيةّ تصقل تأجيج العواصف، بدقةّ متناهية، كي تطمئن، وتطفو في التجسّد. و لامارتين بسماء البحيرة، زُرقة القطرات، هل غفى هُنا!
وترى “السلملك” تشُرف على دار الحريم، دندنة لحن جماليّ يبُعثُ برائحة الغوى؛ وخشب الأرز قيثارة الصندل والجوز والقطران، وفسيفساء مهراجا هنديةّ الألوان مُتعة للبصر، كي يغدو الانتظار مرفوعاً بخشب الديار .
كُل رُكن للإمارة هُنا، كلُّ تاريخ للوطن هو المُبتدأ. من قرُيش العربيةّ إلى جبل لبنان الصامد، تهزّ الريح، ريح التغيير، غير أنّ نجمك الفضّي يظللّه نسيم الصَبا، والشرفات تستيقظ أغُْرُودةَُ عصفو رٍ يستوطن أرجاءكَ ، يتحابان بكُ لِّلّ جُ زئية من #لبنان .
هُنا العتبات تخُبرنا، وكُل شخص عبر وسيعبر البوابة، قناطر القصر، شكّى جوراً أو ضنى أو همّاً، قاعة الضيافة مضيافة لهناء جبر الخواطر.
هذا المُحيط الحيوي بترُاثه العالمي، يسُجّل لتاريخ الأمُم تنوّعاً حضاري ا َ وإيكولوج ياًَّ وثقافي اًَّ وفنِّيّاً وهندسياًّ ومِّعمارياً في الترُاث الانسانيّ ِّ المعولم.
قَصص وحكايا عين صقر تصون، خفّ بلابل تستتبع التنهُدات، وكروان النشوة يحُلقّ.
ها هي، جميعها تسرد حكايا عن قناطركَ المصقولة في زمن التين، وأرائككَ المشغولة بحرير مُعتقّ زهر قرُنفل. هُنا، حتىّ رائحة زيت الزيتون تصبو للانعتاق و المحيا.
“بيت الدين” آسر، والأفُق فيكَ يتجددّ لحظياً وأمُمياً مع الميرون، ونسيم الصبابة درويش التقُى، ومُتصوُف يطوف .. وشجركَ الكاحل يتهادل جِّ يداً، فتاّن الغوى؛ هُنا عيش مجد التصاوير وتعابير التجل يِّّ ال لَّونيّ ِّ وا للَّحني في الكون.
منذ جاء بي والدي شفيق رسلان إلى القصر في طفولتي من البراميةّ إلى عبرا -الجنوب إلى الشوف، ما قبل الحرب وخلالها ومنذ اليوم الأوّل لبدء المهرجانات، صعدتُ درجاتكَ ، وإخوتي وأميمة شمس أمُي، أطربني صوت الجبلي والحنون مع الأستاذ وديع الصافي على المسرح أبلغ من المذياع و”الكاسيت”، “يا بيتنا ال خلف الضباب؛ هونيك ع حدود القمر بالعطر بالنســـمة انغمر، بالشـمس من قبل الغياب..”، “ويــــلي لو يـــدرون يابا ويــلي لو يدرون، من قلبي بهواك لكن أهلي ما يرضون اهلي ويلي لو يدرون …ويلي ويلي ويلي لو يدرون”؛ و السيدة صباح “صبوحة لبنان” تصدح فلكلور أبو الزلف والعتابا والميجانا، وفي الميدان تغُني “يا بيت الدين يا دار العالية، دار الحلوين ورجال الحامية، حيد عالشوف ع أهل المكارم، أهل المعروف وبيوت الولايم ،لو سلّ سيوف وانحدت عزايم، يهدر ويطوف شلال الغنية. حيد عالدار ع بيوت السعيدة، يا هالزوار ليلتكن سعيدة، لاقطفها أقمار..”؛ إلى أنشودتنا الماس يةّ فيروز و “مطلّ القمر”، “وحدنُ بيبقوا متل زهر البيلسان وحدهُن بيقطفوا وراق الزمان”؛ مع تشرين يعودون إلى “صيف ٨٤٠ “الثورة تستيقظها عذوبة رقراقة مع السيدة هدى حداَّد “بيروت المِّبنيةّ بالحجر الرَملي وسطوح القرميد”؛ إلى صباح فخري “هيمّتني تيمّتني عن سواها أشغلتني؛ أختُ شمس ذات أنُسٍ دون كاسٍ أسكرتني”؛ إلى كركلا “كان يا ما كان” “شهرزاد ألف ليلة وليلة”، إلى قيصر الغناء العربي كاظم الساهر
“وديّ أشرحلك شعوري يا حبيبه، ودي اشكيلك شجوني يا رقيقه، وإسمحيلي وإفتحيلي باب قلبك وإسمعيني شوفي قلبي كيف حبك”، “أدخلني حبكِّ يا سيدتي مدن الأحزان وأنا من قبلكِّ لم أدخل مدن الأحزان لم أعرف أبداً أن الدمع هو الإنسان أن الإنسان بلا حزن ذكرى إنسان”؛ وطليع حمدان بالتجاذبات الزجلية والموليا بتناغم “تحت العريشة سوا قعدنا”..؛ والفِّ رق الموسيقيةّ العالمية والجاز، وبينها “شميلة” من قمح.. “شميلة “من لافندر، “شميلة” من قصب.
يستخرج الرسّام بمبضعه من شريط شائك منحوتته رقصاً وموسيقى، تشرئب من سيقان “شِّ لف الحديد” زهرة، فـ “العنق” يربط الزهرة بالساق، و”التخت” حامل الأجزاء ،فالبرُعمُ الزهري يسطع تكاوين لزهرة رُمّانيةّ التصاوير. تتحوّل دلائل الحروب وقهر الاحتجاز إلى ألوهيةّ لونيةّ. ففي صمت “اللوحة” استنهاض لـ “ذات العيش”، عيش الحرّية.
“هل تسمعون”!
من بين الشلوح و يقظة التل يعلو “كرز” الصنوبر والأرز، وينعكس التنوّع الثقافي انسياب مد السوبرانو لـ لطيف القرار بهارموني خلالّ، ويستعير من حفيف القمر رُكن وتر، من لميس شعاع اللحنية مطرية؛ ومن ظبي يستقي رحيق نرجس كينونة سجود.
في “ديوانية حبّ” يشدو الوجد غُمرته …
تطُلق ساحة قصر بيت الدين بقناطرها المُتباهية، و دوُرها ريشة تسرح كعصور الشموع، وسقوفها عروق اليدين، وأرائكها لافندرية الوجد، وثرياّتها المُعتقّة نبيذاً جذوته الريح، فيحار الزُّجاج الملوّن “المُعشّق” أين يرتمي!
أين وَجْ د “طوق الحمامة !” أين “قواعد العشق الأربعون !” أين ينمو نيسان!
أين يشرب المِّسكُ!
أين ينام الورد!
أين يتدفقّ الريحان!
أفي أفياء مشربيةّ – شمسيةّ ولربمّا قمريةّ، أم هو يستظلُّ ومضة موزاييك من هُنا وخمر يةّ صبيةّ هي هُناك؛ لربمّا زارتنا “ذات الخال”؛ لربمّا يختبئ رويداً ويستطع مجازاً. وشوشات طبليةّ نحُاسيةّ، تظفر للزمان، فالصدى.. دمدمات توازي نقر الوتر، والصخر بالوَاد منقوط برهيف فيلسوف قدري، مِّنبري بليغ الإقناع؛ أم ترُاها مصفوفة بصلابة جُند الزمان.
آهٍ.. آه ؛
فما درّك يا دار تستلهمين من صخر لبنان ترُاثاً أزلياًً لـ “جوانيتَّكِّ”؛ وتلك المدقوقة تموج بين المشرق والمغرب، والخيول ترُوِّّضها “مرمر الحجر”، وساقية عجوز تغُازل تموز؛ واليوسفي يعبر الغفران.
نعم، مرتع لانبهاري الطفولي المُطعمّ بالصَ د فَِّ ، أنتَ، ونوافيركَ المِّ غناج، سقسقت نجواي بأثاثكَ المُنجّد نسجاً عربياًّ، إسلامياًّ، بتقنيةّ تواصليةّ دمشقيةّ، بمعاصرة أندلسيةّ، أمُميةّ.
وصهيل الخيول بحوافرها المُمَزَّقة، وحُسامها المصقول برقيق الياسمين نصلاً للروح؛ كقصيدة دودة القزّ، تنُشدُ، لتنتفض أرجوانيةّ في ساحات الشرف.
روح المُريدِّ تصُلِّيّ المآذن والأجراس، و خلوة المُنتهى تتلحّف التسابيح؛ هُنا.
حملتكَُ في جذوري من أصالة بلادي العربيةّ، شركسيةّ الانبهار، إلى العبور الجديد ،جسراً شرق _ غرب. هُناك تاريخ عجوز، مُتهالكاً مع الوجع.
وهُنا الديار رمحاً يسُاقي أهازيج الياقوت… والزمُرُّد نوّار ينتصر … للفرح.
“بيت الدين :”
تطريز سُندس للعاشقين، والخضر وضّاح، يسري في أرجاء الشمس.
هُنا أبُحرُ في صفاء السكينة.
.. سأعودُ .. دوماً ما أعود.
لا بدُّ من “حتميةّ” العبور ..
*د. منى رسلان أستاذة النقد الأدبي الحديث والأدب المقارن، أدب ما بعد الحداثة، والمنهجية ،
في كليةّ الآداب والعلوم الإنسانيةّ-الجامعة اللبنانيةَّ