في مساءات هادئة، حين تهب الرياح بين سهول الجبل الأخضر، كان الصبي أحمد يوسف يجلس إلى جوار جدته يستمع للحكايات والأساطير المنقولة شفهيًا عبر الأجيال. أصوات الريح وألحان الطبيعة كانت جزءًا من سردها، وكأن الأرض نفسها تحكي له قصصها. لم يكن يعلم حينها أن هذه الحكايات ستصبح فيما بعد جوهر تجربته الأدبية، ونافذة يطل منها على العالم من خلال القصة والبحث التراثي. وُلد أحمد يوسف عقيلة عام 1956 في أحد نجوع الجبل الأخضر، ونشأ في بيئة بدوية صارمة، حيث الأمثال والحكايات الشعبية تشكل اللبنة الأولى في وعي الطفل وكتابته المستقبلية.
بعد دراسته الثانوية، التحق بجامعة بنغازي عام 1979 لدراسة الأدب العربي، لتبدأ رحلة طويلة من الكتابة، البحث في التراث، والتوثيق الثقافي. الحكاية الشعبية كجذر للإبداع عقيلة لم يتعامل مع الحكاية الشعبية كأثر متحفي جامد، بل ككائن حيّ يتنفس ويتحوّل داخل نصوصه. في مجموعته الخيول البيض، يُعيد بناء الحكاية التقليدية في ثوب حديث، محتفظًا بروحها الشفوية وإيقاعها البدوي، لكنه يضيف إليها شجنًا وجوديًا يلامس قلق الإنسان المعاصر. يكتب عقيلة: «كانت جدتي تحكي لنا عن الخيول التي تركض في الليل، فنصحو ونحن نبحث عن آثار حوافرها على الرمل..». هذه الجملة البسيطة تحوّل تجربة الطفولة إلى سرد يحمل روح الحكاية الشعبية، ويجعلها متجددة في النص الأدبي.
في مجموعاته الأخرى مثل خراريف ليبية ودرب الحلازين، نلمس حضور البيئة: الرياح، المطر، النباتات، أصوات الحيوانات، وحتى أصوات الريف الصغيرة تتحول إلى شخصيات مشاركة في الحكاية. يقول عقيلة: «الريح في وادي الكوف ليست مجرد هواء عابر، إنها ذاكرة.. إذا أصغيت جيدًا تسمع أنين الذين مروا من هنا منذ قرون». اللغة: جسور بين البساطة والفصاحة يتقن عقيلة اللعب على ثنائية اللغة: فصيحة رشيقة ودارج شعبي محمّل بالأمثال والروائح المحلية. هذا المزج يجعل نصوصه قريبة من المتلقي المحلي، وقابلة للترجمة والانفتاح على قارئ عالمي، وهو ما تحقق بالفعل بترجمة أعماله إلى الفارسية، التركية، الإنجليزية، الفرنسية، والإيطالية.

وقد عبّر عن هذا الأسلوب قائلًا: «أنا أكتب بالعربية الفصحى، لكنني أفتح نوافذها لتدخل رائحة خبز التنور وأصوات النساء في الأفراح». الذاكرة والبيئة كهوية عقيلة كاتب ذاكرة بامتياز؛ لا يكتب عن المدن الكبرى أو السياسة، بل عن الإنسان البسيط في مواجهة الزمان والطبيعة. هذه “المحلية” ليست انغلاقًا، بل نافذة يرى منها العالم. لذا يشبهه النقاد ببعض الكتّاب العرب الذين أعادوا الاعتبار للموروث الشعبي، مثل الطيب صالح وإبراهيم الكوني، مع اختلاف المرجعيات والتجارب. يقول عقيلة: «أحمل قريتي معي أينما ذهبت، إنها مثل ظلٍ يسبقني». هذه الجملة تلخص فلسفته في الكتابة: أن يكون الكاتب شاهدًا على ذاكرة المكان مهما ابتعد عن موطنه. أثره الثقافي لم يكن عقيلة مجرد قاص، بل أيضًا مدوّن للذاكرة الشعبية.
برنامجه الإذاعي سوائر الأمثال في إذاعة الجبل الأخضر كان محاولة لتوثيق كنوز القول الشعبي الليبي، كما أن كتاباته النقدية والبحثية تعكس حسّ المؤرخ الثقافي، الذي يدرك خطورة اندثار الموروث الشفوي إذا لم يُسجّل ويُكتب. تأملات ما بعد النص أحمد يوسف عقيلة ليس مجرد راوٍ للحكاية، بل حارسٌ على الذاكرة الليبية. في نصوصه تتجاور البساطة مع الفلسفة، والطفولة مع الحكمة، والذاكرة مع الحلم. كأنه يذكّرنا دومًا أن الحكاية ليست ماضيًا يُروى وحسب، بل هي حاضر يتنفس في تفاصيلنا اليومية، ومستقبل يستمد ملامحه من جذور الأرض. إن تجربة عقيلة تمثل جسرًا بين الشفوي والكتابي، بين الفردي والجماعي، وبين الحلم والواقع، لتفتح أمام القارئ أسئلة الهوية والمعنى والذاكرة في آن واحد



