

كما يُلفظ اسمها في لغات الداغستان…
“أنا ابنة دار الأيتام. وأنا أحبُّ جميع الناس…”
يلقبونها في محج قلعة ب”ملكة الداما”…
تعرفتُ عليها قبل بضع سنوات. عن طريق شغفي بالشطرنج….
لا أظن أنّ حياة البطلة في القصة الشهيرة للكاتب العظيم فيدور دوستويفسكي “المعمِّرة” أكثر غنىً من حياة “بطلتي” خديجات!.. الفرق الرئيس بينهما هي أن بطلة دوستويفسكي كانت تبلغ من العمر ١٠٤ سنوات. أما عمر خديجات فلا يزال أكثر من ٨٨ سنة بقليل فقط. ولدت عام ١٩٣٧. وبعد وفاة والدها عاشت وتربّت في دار للأيتام.
أما كيف تعرفتُ عليها – فقد كان هذا عن طريق الشاعرة الداغستانية القديرة أمينات عبدولمنابوفا الشغوفة هي الأخرى بلعبة الشطرنج (ترجمتُ لأمينات عبدولمنابوفا بضع قصائد إلى العربية ونشرت ضمن كتاب “أنطولوجيا الشعر الروسي”. ومن أجمل قصائدها قصيدة “إلى أبي”).
يجمع بين خديجات وأمينات أمران أساسيان: كلاهما من القومية الدرغينية. ولكن الأمر الأهم الذي يجمع بينهما هو الشغف بلعبة الشطرنج والداما كما أسلفتُ.
منذ سنوات طويلة وخديجات تعمل على نشر لعبة الداما بين الشبيبة في محج قلعة. وهي تدعو الجميع بلا استثناء لأن يلعبوا معها. وتشجعهم بما في استطاعتها من “هدايا” في حال الفوز. ولهذا الغرض كانت تختار الجلوس على مقعد إما بالقرب من المسرح الدرامي الروسي(وهناك كنت أصادفها كثيرا قبل سنوات) أو على الكورنيش البحري. بيدَ أنها في السنوات الثلاث الأخيرة التزمت بالتواجد في حديقة الكمسومول أو حديقة المجد الحربي أو العسكري. والسبب هو قربها من بيتها نسبيا بعد أن تقدم بها العمر. فَ ال٨٠ وال٨٣ تختلفان عن ال٨٨… وفي هذا السياق يجب أن أقول أن خديجات كانت قبل سنوات أكثر نشاطا وحيوية. وكانت أكثر قدرة على الحركة بالطبع. وأذكر أننا التقينا نحن الثلاثة – مع أمينات وخديجات – ذات مساء صيفي بعد انتهاء أمسية ثقافية في بيت أو مسرح الشِّعر في محج قلعة. ومشينا. راحت خديجات تقودنا من مقهى إلى مطعم شعبي. ولكنهم كانوا يقولون لها أنهم لا يقدمون مشروبات روحية. فهمت أنها تريد الاحتفال بعيد ميلادها ال٨٣. في النهاية تدبرنا الأمر: اشترينا قنينة نبيذ أحمر. (الأدق: عصير عنب
). ثم ذهبنا إلى مطعم شعبي كنا نرتاده لتناول الغداء. وسمحوا لنا “كرمال خديجات” أن نحتفل!

لمشاهدة الفيديو اضغط هنا
خديجات اليوم هي أيقونة في حديقة الكمسومول ولوحة من لوحاتها. تجلس فيها على نفس المقعد وتدعو الجميع للعب معها في الداما بلا مقابل. وتشجع الفائز بطريقتها الخاصة. ولكن هيهات أن يفوز أحد عليها!
إنها امرأة في منتهى الطيبة والصدق والأمانة. وهي مثال يُحتذى من حيث جمال الروح وحبها للمرح. فالابتسامة لا تفارق وجهها. وروح الدعابة حاضرة دائما في حديثها. والأجمل أنها لا تزال تتمتع بذاكرة فولاذية. إذا كان يصح أن نستخدم مثل هذا التعبير عن الذاكرة. ولا زالت تكسب معظم إن لم يكن جميع جولاتها في لعبة الداما.
خديجات إنسان رائع. لم يمنعها الفقر المادي من أن تعيش حياة غنية وحافلة بالفرح. وبالفوز. الفوز على البؤس والوحدة والتهميش…
أطال الله في عمرك يا صديقتي الغالية خديجات. وإنشاء الله تفوزين وتفوزين في الداما وفي الحياة الآخرة.
إبراهيم إستنبولي
محج قلعة
٢٣ تشرين أول ٢٠٢٥