

قبل ثلاثة وعشرين عاما( عاما ٣٠٠٣ )..زرت باريس لأول مرة..والتقيت بالفنان التشكيلي عبدالرازق عكاشة.. الذي قرر أن يكون فرنسيا من دون أن يتنازل عن حرف واحد من أبجدية مصريته..فحصل على الجنسية الفرنسية.. وحقق نجاحات فنية كبيرة.. منحته العديد من جوائز الكثير من دول العالم.. وفي اللقاء الأول مع عكاشة.. أكتشفت أنه يعرف باريس شبرا شبرا.. ولديه مخزون هائل من المعلومات والحكايات عن كل مكان في عاصمة النور..مما يجعل التجول معه في شوارع ومتاحف العاصمة الفرنسية.. رحلات من ( الإمتاع والمؤانسة ) على رأي شيخنا الجليل أبوحيان التوحيدي.
وقد زرت باريس بعد ذلك ثلاث مرات.. وفي كل مرة كان عكاشة.. يمتلك القدرة على أن يبهرنا بالمزيد من المعلومات والحكايات.. التي تزيد من حصيلتنا المعرفية.. وتضاعف من متعتنا السياحية..وقد تحول عكاشة خلال تلك السنوات إلى ( كوكتيل مواهب ) ..فإلى جانب الرسم موهبته الأكبر والأهم.. راح يكتب في النقد التشكيلي.. ويشرح المقتنيات الجبارة الموجودة في متحف اللوفر..وأصدر عدة كتب في هذا المجال..أما المفاجأة فكانت في ذهابه إلى كتابة الرواية.. وهي نوع أدبي شديد الصعوبة..يحتاج إلى طاقة جبارة لجمع المعلومات..ورسم الشخصيات.. وخلق عالم يكاد يتطابق مع الواقع..
وعندما أهداني عبدالرازق عكاشة بعض رواياته..قررت تأجيل قراءتها..ظنا مني أنها لن تكون في قوة حضوره من خلال الفن التشكيلي.. وبعد فترة بدأت بقراءة رواية نوال..ووجدت أنها جيدة ولكنها ليست فارقة.. بمعنى أنها تشبه في المستوى الكثير من الروايات.. التي تصدر في الوطن العربي كل عام..
ثم قرأت روايته ديزل.. ووجدتني مدفوعا لقراءتها مرة أخرى.. فعلى مدى ١٤٢ صفحة فقط.. استطاع تقديم مائدة عامرة.. من الأفكار والشخصيات والثقافة والسياحة والفنون.. كل هذا بلغة أدبية تتسم بالرصانة والجزالة والإمتاع. وتقوم رواية ديزل على فكرة بسيطة.. حيث يقرر الشاب محمد فودة إبن مدينة طنطا..والذي يعمل في محل إصلاح وبيع الساعات الذي يمتلكه والده..الهجرة غير الشرعية إلى فرنسا مرورا باليونان.. وعلى ظهر سفينة الهجرة غير الشرعية.. تعجبه ساعة ماىكة ديزال في يد أحد البحارة.. فيتمنى أن يقتني واحدة مثلها..وتتحول هذه الساعة إلى محور الأحداث ومحركها.. فبعد وصوله إلى باريس وجد نفسه مثل الغالبية العظمى من المصريين..فإما أن يعمل في دهان الزيت ( النقاشة ) ..وإما أن يعمل في السوق..فالتاريخ النقاشة..من خلال أحد المسيطرين على هذا المجال واسمه على مكرم.. كما اختار السكن في حي دي كليشي وسط عدد كبير من المغاربة..وينشر على صفحات السوشيال ميديا رغبته في اقتناء ساعة ديزال.. وكانت البداية مع سيدة شابة( أندريه لوسيو ) ..فذهب إليها ليجد أنها زوجة لرجل قعيد وعاجز يجلس على كرسي متحرك( أنطوان لوسطو ) ..وبعد حوار غامض يكتشف أن هذه السيدة اختارته..وبموافقة زوجها لكي تدخل معه في علاقة جنسية.. مقابل الساعة التي يريدها.. ولأن محمد فودة شاب مثقف ومتدين.. فقد رفض تلك( الصفقة الملعونة ) ..وغادر سريعا رغم إلحاح الزوجين..اللذين فوجئا بهذا الموقف…الذي جسد أمامهما موقف نبي الله يوسف من امرأة العزيز…
ويقدم عكاشة من خلال روايته ديزل خريطة توزيع المهاجرين في باريس.. فهناك أحياء للعرب..وأحياء للأفارقة..وأحياء للصينيين والتركوة…إلخ.. حيث يشرح طبيعة كل حي.. ويقدم أهم تفاصيله.. ليجعل القارئ يقرأ وكأنه يرى.. فعندما يلتقي فودة على المقهىمع سيدة فرنسية من أصل إيطالي.. تقدم له شرحا ضافيا عن كل تفاصيل حي دي كليشي..ثم ينتقل محمد فودة في رحلة بحثه عن الساعة الديزال.. إلى لقاء قادر صلاح الدين..وهو داعية إسلامي مغربي.. يقدم برنامجا تلفزيونيا.. يقوم على طرح كل الأفكار المتشددة والشاذة.. مثل الحض على ضرب الزوجة وتعدد الزوجات..إلخ.. ..ويكتشف فودة أثناء الحوار مع هذا اغداعية..أن من يقوم بتمويل برنامجه يهودي يحمل جنسية الكيان الصهيوني. . حيث يسيطر الصهاينة في باريس على الغالبية العظمى من وسائل الإعلام.. وعلى الكثير من روافد الاقتصاد.. وللأسف فإن بغض العرب قد وقعوا في شباك تلك الصهيونية..مثل قادر صلاح الدين وعلي مكرم.. الذي يعمل معه فودة في النقاشة..ومكرم هذا يجيد القفز على الحبال..فمن الحزب الوطني.. إلى جماعة الإخوان بغد ٢٠١١ ..كما أنه يعمل لحساب عازر ولسن وزوجته.. وهما يهوديان يحملان جنسية الكيان الصهيوني..وبعد جلسة معهما ذهب إليها فودة ليعمل مترجما لصاحب العمل علي مكرم..ينبهر الزوجان بذكاء وثقافة فودة..فيقرران اختياره بديلا لمكرم..عن طريق إغرائه بمنحه الساعة التي يبحث عنها..ولكنه يرفض ويشعر بنفور شديد تجاههما .. لتكون النتيجة إصابته في حادث سيارة متعمد.. عقابا له على موقفه تجاه كل ماهو صهيوني.. ذلك الموقف المحفور على خلاياه منذ ولادته..حيث أن جده أحد شهداء حرب أكتوبر.. كما شكلت قصيدة لا تصالح للشاعر الكبير أمل دنقل.. أهم مرتكزات موقفه السياسي. نتج عن الحادث إصابات خطيرة وفقدان للوعي لمدة أسبوعين..فاتصلت إدارة المستشفى ببعض الأرقام الموجودة على تليفونه.. فجاء مسرعا كل من المصري جمال حسن .. والفرنسية أندريه لوسطو.. التي تركت له وردا والساعة التي يحلم بها.. وفي المستشفى قامت الممرضة إيفا على رعايته بشكل شديد الإنسانية والإخلاص.. وبعد أن غادر المستشفى تعرف على والدة إيفا وهي فنانة تشكيلية اسمها جاكلين.. اصطحبته في جولة معرفية سياحية بمتحف اللوفر. . وقدمت شرحا بديعا لكثير من محتويات ولوحات هذا المتحف المبهر.. وكانت تردد طوال الجولة( طيب الله ثراكم أيها الرائعون..وأطعمكم إبداعا أيها المبدعون ) ..وتقول أيضا( إن الفنون والألوان أوطان بلا جسد ..تسكنها وتسكنك..تحبها وتدافع عنها مشاعرك.. فتحمي إنسانيتك من التلوث.. إنها أوطان ملك الإنسانية جميعا ) ..ومثل هذه الأقوال تؤكد مدى تغلغل الفن التشكيلي.. الموهبة الأولى بالرعاية لدى عبدالرازق عكاشة في كتاباته

يشعر فودة بآلام في ساقه.. فيعود مرة أخرى إلى المستشفى.. ويكتشف أنه يحب أندريه لوسطو.. ويزوره ذلك اليهودي عزرا ولسن مصمما على أن يعمل معهم بديلا عن علي مكرم.. الذي تم ترحيله من فرنسا بعد فضحه وإنهاء دوره..وتدور نقاشات مهمة بين الرجلين .. تردد فيها الكثير من الجمل ذات الدلالات المهمة.. مثل( أوطانكم سرقت منكم.. ثم أنتم كل المهاجرين تسرقون وطننا فرنسا ) و ( فرنسا توفر لمهاجريها حياة أفريقية بجدارة وتعمد غير مفهومين ) و ( فرنسا تستقبل المهاجرين من أفريقيا حتى تكفر عن سيئات سنوات الاحتلال ) .. وينتقل النقاش بين فودة وعزرا إلى أوهام السلام وإسرائيل الكبرى..فيقول عزرا( السادات أجبر وطنه على دفع فاتورة أفكاره فخسر كل شيئ ) و ( عقلكم ثابت تشهرون السيوف في وجوه بعضكم.. بدلا من أن تتحرك خيولكم إلى القدس ) و ( فلاسفتنا قدموا لكم كل ما يهز ثوابتكم..الشك عند ديكارت..والجدل عند هيجل..ونزعات التمرد عند فرويد..إلخ ) .. أما مفاجأة هذا العزرا فكانت إعلانه..أن كل ما كسبه بسبب علي مكرم..ذهب جزء كبير منه إلى الكيان المحتل..ورغم كل هذا يصمم فودة على عدم العمل مع ذلك الصهيوني..ويخرج من المستشفى.. ليذهب إلى سوق البراغي بحثا عن الساعة الديزال.. فهذا السوق يباع فيه كل شيء وأي شيء.. ويشبه كثيرا سوق السيدة عائشة. وعلى مدى صفحات الرواية يصطحب عكاشة قارءه.. في رحلة بديعة إلى شوارع وأحياء باريس.. حي بيجال والطاحونة الحمراء.. محطة جارد نور .. شارع سان دوني.. ماكس دورموه حي السودانيين( حي أم درمان ) ..سوق البراغي.. نافورة العشاق في شارع سان ميشيل.. الحي اللاتيني خلف السوربون
.. كنيسة نوتردام.. سجن ألستيه الذي سجنت فيه الإمبراطورة ماري انطوانيت.. ميدان دو شاتليه.. حي بلفيل( حي بكين )
.الذي يسكنه الكثير من يهود تونس والأتراك والعرب..إلخ . ويقدم عكاشة في رواية ديزال الكثير من الشخصيات الحقيقية.. التي يتقدمها صديقه وصديقنا الكاتب الصحفي الراحل د سعيد اللاوندي.. مدير مكتب الأهرام في باريس.. الكاتب علي الشوباشي.. المخرج السينمائي د مدكور ثابت.. الكاتب الكبير سعد الدين وهبة..سيدة اامسرح العربي سميحة أيوب.. ويجمع كل هؤلاء مع بطل الرواية محمد فودة..الذي يلتقيه د سعيد اللاوندي..ويأخذه معه لزيارة سعد الدين وهبة الذي كان يعالج في باريس قبل وفاته..( أحداث الرواية تدور في زمن رئاسة ساركوزي لفرنسا ) .. وبعد الانتهاء من الزيارة.. يدعو اللاوندي محمد فودة إلى العشاء في أحد المطاعم..ليفاجأ بوجود أندريه لوسطو وحيدة على إحدى الموائد.. فيهرع إليها فودة..ويذهب اللاوندي إلى أسرته على مائدة أخرى..لتنتهي الرواية بانتصار الحب والأخلاق النبيلة. ورغم إعجابي الشديد بتلك الرواية..فكرا وإدبا ولغة.. إلا أن بها الكثير من الهفوات.. يأتي في مقدمتها أن أندريه تركت الساعة في المستشفى..وبعدها واصل فودة البحث عن ساعات أخرى.. وكان الأجدى أن تحتفظ بالساعة معها..وأن يواصل هو البحث عن تلك الساعة الحلم.. التي تمثل العمود الفقري لكل أحداث الرواية.. ثم يكون للدكتور سعيد اللاوندي دور في البحث عن أندريه والمجئ بها للقاء هذآ العاشق العذري..لتكون النهاية تحقيق الحلمين حصوله على المحبوبة وعلى الساعة أيضا . أما الهفوة الثانية..فتكمن في الانفعال المفاجئ من السيدة جاكلين..واتهامها لفودة بالتحرش ومحاولة الاغتصاب..والزج به في قضية شديده الخطورة بالمجتمع الفرنسي.. وعقوبتها قاسية جدا.. ولم ينقذه إلا شهادة أندريه لوسطو..والتي أكدت أنها راودته عن نفسها ولكنه أبى واستعصم.. ثم شهادة الممرضة إيفا إبنة جاكلين.. والتي أكدت أن أمها مريضة نفسيا.. وكل هذا جيد..ولكن غير الجيد هو تبرير المرض النفسي.. بأنه ال ( موني موز ) أو توابع انقطاع الدورة الشهرية..فالسيدة جاكلين طبقا لأحداث الرواية.. قد تخطت الخمسين من العمر.. بمعنى أنها قد تأقلمت مع هذا الحادث البيولوجي منذ سنوات.. وكان من الضروري البحث عن مرض نفسي مقنع. أما الهفوة الثالثة..فهي الزج باسم وزير الثقافة الأسبق الفنان فاروق حسني.. كأحد المسؤلين عن الدفع بغير المتعلمين من المصريين.. في هجرات غير شرعية إلى فرنسا .. مما يجعل مستوى هؤلاء المصريين شديد التدني وعدم اللياقة.. أما الهفوة الرابعة.. فهي التشكيك في فحوى العروبة.. على لسان النائب العام الفرنسي.. بحجة اختلاف أهل صحراء الجزائر عن أهل مصر.. واختلاف أهل مصر عن البربر.. واختلاف الجميع عن الأكراد.. ولا مانع ان بكون هذا رأي رجل فرنسي.. ولكن المشكلة في عدم وجود تفنيد لهذا الرأي. وبعيدا عن هذه الهفوات..فقد سار عبدالرازق عكاشة على درب بعض كبار الأدباء.. بتجسيد شخصيته الحقيقية من خلال إحدى شخصيات الرواية.. وهي شخصية الفنان التشكيلي الشاب مختار الكاشف.. والذي يقول عنه د سعيد اللاوندي أمام المثقفين المتحلقين حول سعد الدين وهبة( هذا الولد يسأل عن كل بلاطة ورصيف..يتعلم في كل لحظة من حياته.. يحصد الجوائز كل يوم ) . ويحسب لهذه الرواية تقديمها لنموذج مبهر.. شاب مثقف قرأ الأديان السماوية والأرضية وتعمق في الصوفية.. مطلع على ثقافة المجتمع الذي يعيش فيه .. حيث يقرأ للشاعر أبولينير.. ويسمع موسيقى جورج موستكي له موقف سياسي واضح..يقول ( الأمان الذي يصاحبه العدل.. أهم من السلام المغموس في الظلم ).. يدندن الأعنية الفرنسية الشهيرة.. ( سوف تخسر كل شيء.. ليس لأني عدوك.. لكن لأن أخاك الإنسان هو الشيطان.. سوف تخسر كل شيء.. ليس لأني الأقوى.. لكن لأن أخاك قد باعك يا إنسان ). آنها رواية تقدم وجوه فرنسا الخمسة( الساحر..الساحر.. الدرامي.. المدهش.. الغربة ) .. بعيون شاب مصري عروبي..صاحب رأي ورؤية في كثير من القضايا.. تبدأ بالصراع العربي الصهيوني.. ولا تنتهي بسد النهضة.. ويمتلك طوال الوقت القدرة على الحلم..( لا تتوقف عن الحلم..حتى لا تهوب في بئر سحيقة.. بئر معتمة ) ..جميل إن نحلم..ولكن الأجمل أن نمتلك القدرة على تحقيق أحلامنا.

