أحداثأدبشخصيات

فأسُ بيد الشِّعر

بقلم الشاعر الكوري كو أون

أبعث بتحيتي الأولى إلى كل واحدٍ منكم في ليون. فالمجاملة في صيغة المفرد أكثرُ حميميةً من المجاملة في صيغة الجمع.

لا أريد أن أتكلّم باستخفاف. أنا حدّي الأوّل. ولهذا لا يسعني أن آتي إلى هذا المكان إلا بصفتي شخص آخر. كما أنني أسيرُ عصري وأنا نفسي. لستُ جلالَ الدين الرومي، الشاعر الصوفي الفارسي القديم. ولذلك، فإن مجال «الكون معاً» في التصوّف لا يمكن أن يكون نصيبي. أعني تلك اللحظة المباركة للجلوس صامتين كالبُكم، بلا كلمةٍ نتبادلها، وبلا إشارة، مجرد مكثٍ هادئ في صمت. فذلك مما ينتمي إلى «أُلفة العدم» التي لا يَسهُل على البشر وسائر الكائنات التنعم بها.

صورة شارحة صممها الذكاء الاصطناعي

إنها تلك الحال من تجاوز اللغة، حيثُ انقطعُ عن الجميع، حتى عن الجدار الذي هو ذاتي، وهي التجربة التي عرفتها حين سعيتُ على عَجَلٍ إلى ممارسة السُّن (المعادلة للشان الصينية والزِن اليابانية) كراهبٍ في عشرينيّاتي. في تلك الأيام، حين اجتاحت الأعاصير والفيضانات حتى أعمق أودية الجبال، انكشفت جمجمةُ أحد الفدائيين الذين لا بدّ أن يكون قد قضى ودُفن في مناوشات حرب العصابات إبّان الحرب الأهلية في شبه الجزيرة الكورية أو خلال تصاعدها. التقطتُ تلك الجمجمة، وأقمتُ لها مراسم الذكرى، ثم وضعتُها على مكتبي في غرفتي، وانصرفتُ إلى ما يُسمّى «تأمّل العظام اليابسة». غير أنّ التحرّر من صورة «الأنا» – من ذلك التعلّق بالهوية – ظلّ مستحيلاً في كل فجوة من فجوات ممارستي للسُّن. في اليأس كنتُ أبحث عن ضربةٍ واحدةٍ تردمُ المستنقع العميق بيني وبين الآخرين.

إن كانت الجينات بين إنسانٍ وآخر، وبين الذات وغير الذات، تتقاسم تشابهاً بنسبة 99.9%، تكاد تجعل أحدنا مرآة الآخر، فإنّ الحدَّ الفاصل بين «أنا» و«أنت» لا يكون إلا أمراً بالغ السخف في مسيرة التطوّر البشري. فإذا صحّ هذا، فإن العبارات التي قيلت منذ القدم – «العالم زهرة واحدة»، «الناس إخوةٌ تحت السماء» – وذلك «النحن» البعيد لأسلاف الهومينين عبر دهورٍ طويلة، ومجتمعات العشيرة والقبيلة في شيوعيّتها البدائية، و«الأممية» في بدايات القرن العشرين – كل ذلك يشي بأننا، إلى حدٍّ ما، «أنا» بصيغة الجمع، تتّسع لذواتٍ أخرى. وهكذا، فإن حياة الثمانين ملياراً الذين انقضوا، والثمانيةِ مليارات الذين يكابدون اليوم على هذا الكوكب الوحيد في نظامٍ شمسيٍّ تائهٍ في لا نهائية الكون، يمكن اختزالها في مجرّد تجريد واحد: «أنا». فكيف يمكن، في هذا العدد اللامتناهي، لأي فصلٍ بين «الذات» و«غير الذات» أن يكون ذا معنى؟

آمل أن لا يظلّ هذا الموقع الحجّي في شمال إسبانيا مقصوراً على روابط دينية بعينها، بل أن يصبح مكاناً للتطهر الروحي والجسدي، وللمجاهدة الصامتة، لكل البشر على هذه الأرض، كلٌّ على طريقته.

وليس حجُّ سانتياغو وحده هو المقصود. فالعالَم العربي وسائر الأمكنة التي جابها ابن بطوطة عبر أزمنة طويلة، وسيبيريا، وجبال ألطاي، وجبال بامير، وحوض اليانغتسي في الصين، وأميركا الشمالية والجنوبية التي عبرتها الهجرات البشرية الأولى، ومسالك بولينيزيا وأوقيانوسيا في غرب المحيط الهادئ وجنوبه بدءاً من تايوان، والدائرة القطبية حيث ترحل قبائل الرنّة في مواسمها البعيدة، والرحلات الصحراوية التي خاضها الرهبان القدامى طلباً للاستنارة – كيف لا تكون جميعها سجلاً للعشق المتفاني الذي أبدعته روحُ الإنسان في حجه الأزلي؟ وأنا أيضاً، في شبابي، هِمتُ طويلاً عبر جبال كوريا وحقولها كراهبٍ شريدٍ بثيابٍ رثّة.

وها أنا ذا أقف اليوم أمام مذبح الشِّعر في ليون، الذي يقدّس شاعراً من شرق آسيا. وليس هذا، بلا شك، بعيداً عن تلك الخطى الحجّية التي سبقت. ولذلك أشعر بثقل الواجب، بوصفه حملَ المستفيد من هذا التشريف الذي أحاطتني به ضيافتكم الكريمة.

ما يثير الدهشة حقاً هو أنّه، منذ تلك الفؤوس الحجرية في العصر الحجري القديم، ما يزال ثمّة جينٌ أساسيٌّ مشترك يصل بين جينات المكان الذي غادرته وهذا المكان، وكأنّه يُلهم فكرة التزامن العجيب. وربما يكون هذا الإلهام متصلاً مباشرةً بالوشاح المدفون في أعماق الطبقات الجيولوجية أكثر من اتصاله بأي إحساس أرضي. ولأنّ الأرض لا تقوم بلا لا نهائية السماء، فأنا نفسي تحت السماء، مثلها. لا أحد يعرف كم من الوقت ستظل الأرضُ أرضاً. فكثيرٌ من طبقاتها الحالية كان يوماً ما في قاع البحار. وهناك أيضاً قراءات جيولوجية تشير إلى أن الماغما القابعة تحت الأنهار الجليدية قد تندفع قريباً ناراً من براكين مدفونة منذ عشرات آلاف السنين. ومع ذلك تمضي الحياة على هذه الأرض، محتضنةً هذا الاضطراب العميق في ثبات اليابسة.

قبل عامين، عبرتُ الجانب الفرنسي من جبال البرانس خلال رحلة عائلية استمرت عشرة أيام. ومن النظر إلى الجانب الإسباني من تلك الجبال تبيّن لي كم أنّها الواجهة الحقيقية للبرانس. وفي نهاية الرحلة زرنا بورتبو، ذلك الميناء الإسباني الصغير، ليومٍ واحد.

كانت لغة إقليم الباسك في شمال إسبانيا لغةً واسعة الانتشار في أوروبا زمن العصر الحجري القديم، لكنها، بفعل ضغط القبائل السلتية التي تحدثت باللغة الغالية، انحسرت في وديان البرانس. يشبه هذا ما حدث عندما انهارت روما، فتعذّبت جماعةٌ من نبلائها في عبور ممر مالويا في الألب ليستقرّوا في المنطقة التي تُعرَف اليوم بإنغادين في سويسرا، حيث منبع نهر إنّ، واستمرّوا في الحفاظ على لغتهم الرومانشية، التي بقيت حتى الآن واحدة من اللغات الرسمية الأربع في سويسرا. وفي إقليم الباسك ما يزال الناس يخدمون الأوسكيرا بوصفها لغتهم الأم، ويشتهرون بوعيهم الحادّ بهويتهم اللغوية.

لغة الباسك فريدة. إنّها لغة مستقلّة تطوّرت بمعزل عن العائلة الهندو-أوروبية. والوحدة، في حقيقتها، امتحانٌ شاق. العلاقاتُ كلُّها ظواهر في حركة دائمة. ذلك الوعي العريق الذي يجمع عزلةَ هذه اللغة الغامضة، المقيمة خارج الدولة، الأناركية الروح؛ والفلسفة الطبيعية المهيبة لقشتالة؛ وحتى السُّكر الكلاسيكي لريف ريوخا، كلّه يرقُد في لاوعيٍ واحد، كأنه ينهض الآن ليوقظ الروح الترابية لليون. ومعه، يوقظ في داخلي وسيطَ الشعر.

هذا العالم ليس فضاءً عشوائياً بسيطاً يمكن التعامل معه بخفة. فإيكولوجيا الوجود تقوم على ما يقتل ماذا، ومن يفترس من. فمنذ ذلك الزمن السحيق للكائنات أحادية الخلية من بدائيات النوى، بدأت خليةٌ تقتل أخرى. ولمّا تطوّر الأمر إلى الوحدات متعددة الخلايا، اشتدَّ توحّشه. هذا العالم، مهما يكن، يفيض بغريزة الحياة في استنساخ ذاتها. والحياة، في جوهرها، عمياء. وفي مثل هذه الإيكولوجيا، ليس السلم ولا التعايش إلا لحظة نادرة من سكونٍ مؤقّت؛ فراغٌ ضمن متغيّرٍ دائم، وظاهرةٌ يحدث فيها التعايش المتبادل كصدفةٍ عابرة.

وهذه الظاهرة لا تجري في عالمنا وحده، بل في صعود الأشياء وهبوطها في الكون كله، في لاثباته، وفي فنائه. فالتنافر هو المبدأ الكامن لاستمرار العالم، والثابتُ من ثوابت الكون. فكيف يمكن أن تولدَ الانسجاماتُ في عالمٍ بلا ضجيجٍ ولا نشاز؟ ذاك هو مبرّر وجود الانسجام.

وعلى هذا، فإنّ ظواهر هذا العالم والكون ليست «وجوداً»، بل «فعل». ومن بين كلمات غوته الكثيرة، كانت عبارته «في البدء كان الفعل» تتغلب على «في البدء كانت الكلمة» لهذا السبب. فالأشياء في هذا العالم ليست «ما هو كائن»، بل «ما يفعل»، «ما يتقدّم»، «ما يتغيّر». وحتى السكون فعل. ليست هناك ديمومة ثابتة بل تبدّلٌ لا ينقطع. هذا العالم مكانٌ ينتقل فيه شيءٌ من مكانٍ إلى آخر، ويتحوّل فيه شيءٌ إلى شيءٍ آخر. فإذا كانت الأنطولوجيا الإغريقية القديمة مفهوماً صلباً، فإنّ منحَ هذا الوجود فعلاً هو ما يجعله حيّاً نابضاً.

إنّ المجتمع الإنساني، حين يتكوّن في صورته الفردية والجماعية، لا بدّ أن ينتج آداباً وتقاليد، لكنها كثيراً ما تنتهي لتصبح علاقة قوة يخضع فيها الضعيف للقوي. وأفضل علاقة يمكن أن تقوم بين إنسانٍ وآخر تظلّ دائماً علاقة من الدرجة الثانية؛ إذ لا تبلغ الكمال أبداً. ولهذا، رغم النظريات التي ترى الشرّ كامنًا في طبيعة الإنسان، أو تلك التي تفسّر البقاء بالقدرة على التفوّق، تبقى التجارة وتبادل الهدايا وبعض أشكال التبادل الثقافي ممكنة بفضل إرادةٍ ما في الإنسان تسعى إلى حلّ الصراع. وفي مثل هذا السياق، تبدو العلاقات البعيدة أكثر طبيعيةً من القريبة؛ فالشوقُ يُنشّط الرومانسية والصداقة ويزيدهما توهّجاً.

وخلال حياتي شاعراً، انخرطتُ بشغفٍ في قضية «السلام». كتبتُ كثيراً من قصائد السلام، وشاركتُ في مناسبات محليّة وعالمية لا تُحصى من أجله. ولأنّ تحرّر كوريا من الاستعمار انقلب، على نحوٍ مفارق، إلى نظامٍ من الانقسام، صرتُ أحمل عبء السعي إلى تخفيف العداوة بين الشمال والجنوب. ذهبتُ إلى بيونغيانغ موفداً خاصاً في الحدث التاريخي لـ«إعلان المصالحة بين الكوريتين» الذي تمّ عقب لقاء رئيس كوريا الجنوبية بالزعيم الأعلى لكوريا الشمالية، وهناك ألقيتُ قصيدةً أعبّر فيها عن أملي في إعادة توحيد وطني بسلام. كذلك ألقيت، بحماسةٍ لا تقل، «أنشودة السلام» في حفل الافتتاح الذي أقيم بمقرّ الأمم المتحدة عندما نظّمت، في عهد الأمين العام كوفي عنان، «قمة السلام العالمية». وبعد ذلك أعلنت الأمم المتحدة «اليوم الدولي للسعادة» للتذكير بمآسي الحروب التي يعيشها البشر، ولدى إصدار ديوان شعري بعنوان «السعادة» طُلب مني أن أكتب له عدداً من القصائد.

يوهان غالتونغ، مؤسّس دراسات السلام

كما شاركتُ في مهرجان السلام العالمي الذي أُقيم في «حديقة السلام» بالنرويج إلى جانب يوهان غالتونغ، مؤسّس دراسات السلام، وهناك ألقيتُ قصيدة سلام كتبتها خصّيصاً للمناسبة. وذهبتُ حتى إلى ليبيا إبّان حكم القذافي لأساهم في تعزيز السلام والصداقة. وحين وقعت أوكرانيا قبل ثلاث سنوات في تجربة غزوها وبادر شعراء سويديون مقيمون في ألمانيا إلى إعداد مجموعة شعرية تدعو إلى السلام، شاركتُ فيها أيضاً، وكتبتُ قصيدةً قلت فيها إنّ «الحرب الوحيدة المقدَّسة هي الحرب الدفاعية». وفي العام الماضي، عندما نظّم «الحراك العالمي للشعراء» أمسيةً شعرية لأجل معاناة غزة، شاركتُ بحماس وألقيتُ عبر الإنترنت قصيدةً كتبتها من أجل غزة.

ومع ذلك، تجد كوريا نفسها اليوم في مواجهة أكثر عداءً بين الشمال والجنوب، ولا تزال أوكرانيا تحترق في لهيب الحرب، ولا تزال الإبادة جاريةً في غزة، وتتمدّد جبهات الحروب في أماكن أخرى. أحياناً يتملّكني شعورٌ باللوم الذاتي: هل يزداد السلام بُعداً كلما كتبتُ قصائد للسلام وضدّ الحرب؟ إنّ في أعماق وعيي دوماً يأسا مكتسباً من التجربة تجاه فكرة السلام، يتحرّك ولا يهدأ.

ففي كلّ خلقٍ وتطوّر، تعمل قوّتان على نحوٍ حتمي: الهجوم والدفاع. وكلّ قوّةٍ هي ضربٌ من ضروب العنف، وكلّ الأمم دولٌ وُلدت من رحم الحرب. وجميع الأباطرة والزعماء، في جوهرهم، غزاةٌ للسلطة. فالأباطرة الصينيون القدماء الذين تعاقبوا على السلالات، وسمّوا أنفسهم «أبناء السماء» قائلين إنّهم تلقّوا «التفويض الإمبراطوري» من «الإمبراطور السماوي»، مثلهم مثل نظريات «الحق الإلهي» للملوك في الغرب، كلّها قامت على منطق القوّة. وربما تكون كوسـتا ريكا، تلك الدولة الصغيرة في أميركا اللاتينية التي تحوّلت إلى منطقة عازلة بلا جيش، معجزةً نادرة في عصرٍ يسوده منطق الحرب.

إنّ مسألة غزة الراهنة وتصاعد الصراعات في الشرق الأوسط إنما تتجذّر، في جوهرها، في ديناميات القوّة التي لا تلين بين القويّ والضعيف. فما يسمّيه كلُّ طرفٍ «عدالة» ليس سوى عدالته، وما يدّعيه كلٌّ منهم «حقّاً» ليس إلا حقّه من وجهة نظره. حتى الإله، في منطقهم، ليس إلا «إلههم» هم.

وهذه المعادلة المتمركزة حول الذات هي التي تثير أفعال العنف عبر التاريخ. كيف كان يمكن للـ«شيونغنو» الصينيين القدماء أن يكونوا «سادةً مهذّبين»، ولأسرتي «هان» و«تشين» أن تكونا «سيّداتٍ راقيات»؟ وكيف يُعَدّ «السلام الروماني» في العصور القديمة، أو «السلام الأميركي» في العصر الحديث، حارساً قدّيساً للطهر؟ إنّ ترامب ليس سوى الصورة العارية التي ترسم بها أميركا نفسها. وعلى هذا الكوكب، كم يبدو المبدأ الأسمى القائل بوحدة «الذات والآخر» مُفرِطاً في النفاق! وإن لم يكن نفاقاً، فلن تكون تلك الوحدة سوى جحيمٍ بالغ الفظاعة.

أمّا الرمز pictograph الشرقي «道» الذي نترجمه غالباً بـ«الطريق» أو «النهج»، فهو لا يدلّ على «طريق الحقيقة». معناه الصوري الأصلي هو قتلُ قائد العدو وتعليقُ رأسه عالياً على بوّابة القلعة لتهديد القوى المعادية. وكذلك الحرف «我» الذي يعني «أنا»، فإنّ صورته الأصلية تشير إلى “هيئة الإنسان وهو متمنّعٌ بالرمح”.

ولعلّ الإنسان، لأنه لا يستطيع العيش في مثل هذه الوحشية المحضة، ابتكر في الهند وفي مناطق وثقافات آسيوية شتّى تحيّة «هبجانغ» (合掌)، أي جمع الكفّين معاً. إنها إشارة إلى أنّ اليدين لا تحملان سلاحاً. وبموازاة هذه الإيماءة، نجد التحيات السامية القائمة على التقبيل والعناق الكامل، والمصافحة الغربية التي نشأت أصلاً لتُظهر أنّ الكفّ خالية وغير مسلّحة.

صحيح أنّ كانط كتب «سلاماً دائماً» وأنّ المناضل الكوري من أجل الاستقلال «آن جونغ-غُن» وضع «نظرية سلام شرق آسيا»، لكن—رغم جمال مقاصدهما—تبقى كلمة «السلام» خارج هذه السياقات لغةً ميتةً في أغلب الأحيان.

مأساة الشعر تكمن في أنّه مجبرٌ على سماع أصوات الطيور والماء والرياح في هذا العالم، في اللحظة ذاتها التي يصغي فيها إلى القصف العشوائي والجحيم الملتهب في غزة. فإذا كان العالم مريضاً متألّماً، فكيف لا يمرض الشعر ويتألّم؟ وإذا غمر البؤسُ الأرض، فكيف لا يغمر الشاعرَ هو أيضاً؟ لقد قال الشاعر الروسي ليرمنتوف إنّ الشاعر يبكي لأجل الآخرين منذ سنّ الثالثة.

وأنا أحوّل هذا اليأسَ الشعريّ إلى أثمن ممتلكاتي، وأجعل المتكلّمين في قصائدي يرحلون نحو أقاصي الأرض. فالشاعر ينبغي أن يعمى لأنه تطلّع مباشرةً في وجه شمس الظهيرة، وأن يتحوّل إلى حارس ليلٍ ساهر لا ينام طوال الليل، يبتلع الظلمة بكامل كيانه.

Ko Un, photo by Ashraf Aboul-Yazid

إنّي أتجاوز تصوّرات جنّة «توشيتا» في البوذية و«الأرض الطاهرة»، وعالم الخلود في الطاوية، وجنّة عدن وسماء إبراهيم. فجميع الكائنات، حيّها وغير الحيّ، ليست إلا ظواهر ماديّة تتألّف من عناصر الكون. ولو تأمّلنا ولادة طفلٍ جديد، لتجلّى لنا مدى اتّساع وبُعد الأسباب العميقة والدورات الكونية التي أنتجت ذلك الطفل. فالطفل، في الحقيقة، كائنٌ إنسانيّ وكونيّ في آنٍ واحد.

وقد تكون صرخة الطفل الأولى بداية الشعر. وبعد تلك الصرخة، يتعلّم الطفل لغة أمّه وهو يرضع من ثديها. ومهما قالت اللسانيات عن «النحو الكلّي»، فإنّ لغة الطفل ليست لغة الأمّة، بل هي اللغة الخارجة من فم الأم، إنّها «الأمّية» – نسبة للأم (المترجم) – قبل أن تكون “القومية”.

وهذه الأنشطة الحميمية للطبيعة تمهّد لذلك الاندماج الطبيعي الذي نسمّيه «الحجّ»؛ ذاك الذي يحدث في مسارب الحياة البشرية الضيّقة. فالحجّ، في جوهره، متجذّر في جينات البشر نفسها، محفور في مسيرة الحياة الطويلة—من تطوّر الكائنات من البحر إلى البرّ، ومن هجرات البشر الكبرى عبر خمسمئة مليون عامٍ من تطوّر الحياة، وخمسمئة ألف عامٍ من الهجرة الإنسانية.

بفضل هذا الامتداد البشري، ورغم انقراض لغاتٍ لا تحصى، ما زالت نحو 6,500 لغة باقية في وديان وأقاليم العالم المختلفة. ومن بين هذه اللغات، تُعد الإسبانية إحدى اللغات الأربع الكبرى. وأما الإنجليزية فقد أصبحت لغة السوق العالمية ولغة البقاء. وفي العالم الرقمي، تُعد الإنجليزية أيضاً الرمز المعياري. أمّا اللغة الكورية «هانغول» التي تحظى بمجدٍ في مجال الكتابة، فهي اليوم مادة شعبية تُدرّس في العديد من الجامعات حول العالم، غير أنّ ضمان مستقبلها يبقى صعباً.

لقد حُرمتُ من لغتي الأم في طفولتي. وأُخذ اسمي عني أيضاً، وأُجبرت على اعتماد اسمٍ غريب من بلاد أخرى. لم أستعد اسمي ولغتي وكتابتي إلا بعد انتهاء الحقبة الاستعمارية وفقدان الذات. كنت حينها في الثانية عشرة من عمري.

التقيتُ أول مرة بالشعر الكوري في كتابٍ مدرسي للغة الكورية بعد التحرّر. ثم اندلعت الحرب الكورية، وانهارت المدن وتحولت القرى إلى رماد. وفي ذلك الفراغ صرت شاعراً، وكنت حينها في الخامسة والعشرين من عمري.

في العصر الأفريقي، ظهرت أول لغة لإنسان «هومو إريكتوس» قبل مليون عام، جنباً إلى جنب مع فِرمونات النمل، ورقصات النحل، وأصوات الطيور وإيماءات الخيول، وأغاني الفيلة والحيتان، والسلوكيات التعبيرية للشمبانزي والبونوبو.

ثم، ربما مع الوقت الذي غادر فيه البشر أفريقيا قبل ستين ألف سنة، بدأوا أخيراً باستخدام اسم «غد» لأول مرة، وبدأوا بصياغة الماضي لفعل الصيد على شكل «صُيد». من هذه النقطة، أصبحت أنشطة التواصل البشري أكثر نشاطاً. ومع انتشار البشر في أطراف الأرض مصحوبين باللغة، أنهوا رحلاتهم الطويلة وتطوّروا إلى مجتمعات مستقرة، وأصبحت أشكال التعبير البدوية تدريجياً مرتبطة بالمناطق الجغرافية.

لقد انتشرت الإنسانية التي غادرت أفريقيا حتى ذيل قارة أمريكا الجنوبية، وبقي شعب ياغان، إحدى القبائل الصغيرة في باتاغونيا، حتى وقت قريب. كان آخر شخصين من قبيلة ياغان، قبل عامين أو ثلاثة، ابنة عمٍّ واحدة للأخرى. لكن هاتين المرأتين صارتا أعداءً بسبب أمر تافه، فذهبت واحدة إلى الولايات المتحدة واختفت، وعندما توفيت المرأة المسنّة المتبقية، انقرضت تلك الأقلية العرقية.

ومن بين كلمات لغة قبيلة ياغان، هناك كلمة واحدة «mamillapinatai» عميقة وذات معنى بالغ. وعند تفسيرها، تعني: «أنتظر بصبر أن تتحدث أولاً أنت، من أحبّ، بالمحتوى الرائع الذي كنت على وشك قوله». إنها فضيلة قصوى تتمثّل في عدم احتكار شيءٍ نبيل، والسماح للآخر بالتمتّع به أولاً. إن مثل هذا المفرد اللغوي نادر في عائلة اللغات الأورالية-الألطائية أو في أي عائلة لغوية أخرى. ورغم وجود لغة بهذا المستوى، فإن انقسام آخر شخصين وخصومة كلّت بينهما هو أمر ساخر، ويُظهر أنّ هذا جزء من حدود الإنسان غير المرتبطة باللغة.

اليوم، في جميع أنحاء العالم، أصبحت اللغة نفسها—بل اللغة المتقدّمة إلى الصدارة—رمزاً للصراع والمنافسة، كاشفةً واقع عالمنا الحديث من خلال حالة «الحرس الأحمر الرقمي اللغوي» الذي يعرض جميع أنواع التعليقات المليئة بالكراهية والشتائم. إن الإعلانات النيوليبرالية الرأسمالية المتأخرة غارقة اليوم في عنفٍ هائل وإغراء مستمر. وفي هذا الطوفان اللغوي، نرى أنّ الشعر نفسه يُسيء أحياناً إلى اللغة، وتصبح عباراته مفرطة. وإذا كان الشعر يدفع الذات إلى السموّ من خلال اللغة، فإنه في أزمنة كهذه يجب أن يولد من جديد بوقار، كما تزهر زهرة اللوتس من الوحل.

قبل سنوات قليلة، قلتُ مباشرةً لشاعر ياباني مشهور زار بيتي: “أكثر ما يخيف في الشعر هو الاستعارة. لا ينبغي للشعر أن يستخدم الاستعارات بتهوّر. وربما كان الخطأ العظيم للشعر الحديث منذ بدايته هو هوسه بالاستعارة”.

فالاستعارة ليست الحقيقة ذاتها، بل مجرد أسلوب تعبيري يُستبدل به جوهر الأشياء والحياة. ولكن يحدث الانحراف العظيم حين تصبح الاستعارة الجوهر ذاته، كما يحدث في البلاط الملكي القديم حين يستولي الخصيان على كل السلطة. وبشكل خاص، في استعارة الشعر الحديث، يسبق فن الوصف والتعبير الموضوع ذاته؛ فتتحوّل الوظيفة إلى جوهر.

وربما تكون الاستعارة قد انتقلت من إيقاع الأمواج الكونية التي تسلّلت إلى الداخل البشري خلال عملية التطور الطويلة للإنسانية. أعني التمثيل الذي وصل إلينا اليوم عبر حيواتٍ سابقة متعددة، كـ«جاتاكا» الشعرية (حكايات الولادات السابقة). إن جذور الشعر لا تقتصر على ما جاء في فنون كونفوشيوس أو في الفن الأرسطي.

أتمنى أن تكون لغتي حروفاً عذراء، تتجاوز تاريخ الشعر وتفسيراته الطويلة حتى اليوم. منذ أن كُتبت قصيدة للشاعر كانوش خادرو على لوح طيني سومري في العصور القديمة وحُفظت كتابياً، صارت تلك القصيدة بمثابة «القصيدة الأجدادية» التي كتبت قبل آلاف السنين. ومع ذلك، فأنا في النهاية لا أسمح بذلك. فالشعر مدين للشعر السابق، لكنه، في الوقت نفسه، أيّ قصيدة تُكتب الآن، هي القصيدة الأولى.

ومع هذا النقاش حول أصول الشعر، يُسمع أيضاً منذ نحو مئتي عام متقطّعاً حديث عن «موت الشعر». وفي القرن الحادي والعشرين، يبرز بشكل واضح أنّ الشعر والفلسفة يضمران تحت حضارة الرقمية، وصناعات الذكاء الاصطناعي المتطورة، والعلوم المتقدمة غير المسبوقة.

أريد أن أجعل الشعر المتروك في مثل هذا العصر بالذات هو اقتراحي الأسمى. آمل أن لا تكون السعادة، بل تجربة انفجار البراكين التي تتوغل من خلال طبقات الجليد، هي البركة لقلبي الشعري البدائي طوال حياتي.

حين يموت الشعر، تموت معه المشاعر الأساسية للإنسانية. في محاضرة بعنوان «الشعر والعلم» قدّمتها في جامعة علمية متقدمة، تحدّثت عن حلم «جعل العلم شعراً، والشعر علماً»، بما يسمح لكليهما بتحقيق استعارة جديدة كلياً. وهذا بالصدفة يشير إلى أنّ كلا المجالين قد استيقظ على شعور بالأزمة — فالعلم يواجه أزمة الإفراط، والشعر يواجه أزمة الاغتراب. والتأثير التكاملي الناشئ عن التقاء هذين العالمين يمكن أن يحوّل ضعف الذهب الخالص إلى قوّة سبيكة متينة.

والسبب في سروري، مع زوجتي، لتلقي دعوة زيارة ليون، هو أنّ الرسالة وصلت في يوم ميلاد ابنتنا، التي كانت تقيم في كوريا لبعض الوقت، وقد قررنا أن نزور المواقع البليستوسية في بلادنا للاحتفال بعيد ميلادها. وأين تقع ليون على الأرض! إنّ ليون مكان ينتمي إلى الشبكة الدلالية الواسعة لشمال إسبانيا، المعروفة كمركز عالمي لفؤوس العصر الحجري القديم، قبل الحياة السكنية التقليدية الحالية بزمن بعيد.

أولاً، في كهف ألتاميرا، هناك لوحات للثيران، وما وراء جبال البرانس شرقاً، داخل كهف شوفه، مطبوع هناك كورال عظيم من أيادي البشر مع بصمات الأصابع في الظلام. وربما كان غوغنهايم في بلباو، قرب سهول ليون في قشتالة، قد بُني عن قصد بالقرب من هذه الملاذات للتراث البشري القديم.

إن لُقى المخلفات المكتشفة وغير المكتشفة في هذه المنطقة تتقاطع بالصدفة مع المواقع ما قبل التاريخ في جونغوك-ري بكوريا، مما يقودنا إلى توقع بعض التوافق بين هذين العصرين البشريين القديمين. ولهذا السبب استجبت بسعادة لدعوة ليون.

حفريات كلا الموقعين الأثريين تمت بالصدفة، والحقيقة المدهشة التي كشفتها هذه الحفريات هي أنّها حققت إنجازاً بارزاً في تصحيح الخطأ المتعلق بانتشار جنس الهومو — أي المفهوم الخاطئ القائل «من أفريقيا إلى آسيا» و«من أفريقيا إلى أوروبا»، والذي رسخته التفسيرات المنحازة للأدلة ما قبل التاريخية. أرغب في اعتبار هذا التحقق التجريبي المتزامن في علم الآثار الأنثروبولوجي بمثابة فأل قديم يعيد تنسيقاً ما بين شعر هذا المكان وشعري الخاص.

وبسبب حقيقة أنّ الحفريات العائدة إلى الإنسان المبكر قبل 1.4 مليون سنة قد كسرت المفاهيم التقليدية عن الهومو إريكتوس، فقد تُركت المزيد من المواقع شرق بورغوس، قرب ليون، كأماكن تستحق التحقق الأثري الجاد. وقد تأكدت من هذه الحقيقة من الأستاذ باي جي-دونغ، عالم الأنثروبولوجيا الكوري المشهور دولياً.

هذا يُعيد النظر في نظرية هجرة الإنسانية من أفريقيا إلى آسيا. كما أنّ التوثيق الذي يربط بين فؤوس جونغوك-ري الكورية و«هومو إريكتوس» في العصر البليستوسيني يقلب النظريات الأوروبية المركزية التي قللت من شأن آسيا. ورغم أنّ هذين الموقعين غير مدركين لبعضهما البعض، فإن صدفة هذا التلاقي بين هذين الحقائق ستصبح حتمية، وستحقق جعل الماضي حاضراً. لذلك، آمل أن يفتح شعر هذين المكانين عالماً شعرياً جديداً ويخلق عالماً آخر من الشعر.

من خلال تمديد تجربة عائلتي مع العصر البليستوسيني إلى هذا المكان بالذات كموقع للإلهام ما قبل التاريخ، آمل أن أعيد تجربة سنوات ليون القديمة سرّاً. وعند النظر إلى سماء الليل هنا، أرغب في أن أصير طائراً يصدح بأعلى النغمات. وكما صرخ بيكاسو: «بعد ألتاميرا، كل شيء تدهور»، فإن رحم الخلق المدفون في ليون وحولها هو ما يصل إلى المستقبل. وربما أغرق في الوهم الجيني بأنني قادر على استدعاء بعض الشعر من قبل ظهور «هومو سابينس» عبر ألحان ذلك الزمن الرتيبة. وهذا بالضبط هو الحتمية الأثرية لشعري.

الطريقة التي تُعرف بها آثار العصر البليستوسيني في هذا المكان متناثرة على السطح هنا وهناك، أو ما زالت كامنة تحت عدة طبقات من الأرض، تشبه حالة الشعر وما كان موجوداً قبل الشعر. فالشعر يحتوي في داخله حتى الإيقاعات الآلية والسلبية من الماضي الأزلي لعصر الشعر البرمي وعصر الشعر الطباشيري، وحتى قبل ذلك، في الزمان والمكان الممتدين لآلاف السنين الضوئية عبر مجرات كبيرة وصغيرة لا تحصى تتجاوز كوكبنا ذو الجاذبية الكونية. الشعر الحديث متصل بالعالم الشعري ما قبل التاريخ. وهذه الإشعاعات والرحلات العابرّة للزمان التي تتدفق عبر العصور القديمة والحديثة هي بالضبط ما هو الشعر. لذلك، الحضارة الحديثة مرتبطة بمصير الشعر الممتد إلى المستقبل. ومؤلف «الجين الخالد» يؤكد أيضاً أنّ الماضي والمستقبل واحد.

ربما يكون الإحباط الشعري الحالي مجرد علامة ترقيم لفترة قصيرة ضمن هذه العملية الطويلة. وسرعان ما قد يظهر الشعر لا محالة، ليملأ كل زاوية من هذا العالم بالإيقاع الشعري ويخلق صدى كونيّاً. ذلك لأن الشعر عنصر حتمي في الإنسانية. الإنسان لا يستطيع العيش من دون شعر.

تشكل العاطفة الإنسانية المجتمعات من خلال الأغاني المحمّلة بصراخ فترة «هومو هابيليس»، وأنين الإنسان البدائي، وغنائية «هومو سابينس»، ما يفتح حدود الذات ويجعل الأعضاء يشاركون في المجتمع. كانت الأغاني قبل عشرة آلاف سنة ذات نمط بسيط للغاية مركز على الإيقاع. لم يكن من الممكن نطق الأصوات «i» و«a» و«u». ومع تطور الحنك، أدت المواد الكيميائية العصبية في الدماغ إلى تطور التعبير الصوتي للغة البشرية. والشعر ليس شيئاً سماوياً منفصلاً عن عملية التطور.

في العصور القديمة يقارن الراهب الكوري وونهو الحقيقة من خلال اللغة بالحقيقة التي تتجاوز اللغة. وفي العصر الحديث، يقول فيتجنشتاين إن حدود لغتي هي حدود عالمي. وأنا أيضاً أتوق لملاقاة الإيقاع اللانهائي الذي يتجاوز اللغة والحروف، لا أوروث تقليد أحد، بل كمتجول عاري على السهول قد تخلى عن كل المعلمين، مع الرياضيات الكونية التي تكتشف الواحد والعشرة آلاف من كلمة واحدة. هذا ما أسميه نظرية الشعر الموجي.

آه، التكرار اللانهائي للأمواج!

هذا ما يزرع الزهرة البدائية داخل اللانهاية. في شبابي، بعد عدة محاولات انتحار، انجرفت إلى جزيرة جيجو في أقصى جنوب كوريا وعشت هناك ثلاث سنوات. قضيت أيامي على شاطئ البحر، محدّقاً في الأمواج. وأدركت لاحقاً أنّني وجدت القانون غير المكتوب لشعري من تلك الأمواج الحية التي كانت تأتي إلى المنحدرات العمودية هناك وتتحطم بلا استسلام.

لا أؤمن بالأنظمة الفكرية الغربية مثل «الأفكار» أو «العقل». لهذا السبب، أتعاطف أكثر مع هيوم أو روسو. كما أنني بعيد عن التوحيد لدى الشعوب السامية أو الثنائية بين الخير والشر لدى زرادشت. ومع ذلك، فإن العاطفة الشعرية المضمنة في حياتهم كافية لأن تُستوعب في تجربتي الشعرية. ففي العملية التي تتطلّب أحياناً العاطفة قياس العقل لإدارة اضطراباتها، يصبح العقل وسيلة للعاطفة. بمعنى آخر، يصبح العقل ليس موضوعاً بل طريقة. الشعر زهرة بريئة قد تخلّت عن جميع أفعال الموضوع والشيء.

الحالة اللاواعية للزهور!

لقد كانت الزهور تتفتح منذ زمن طويل، وستستمر في التفتح لفترة طويلة جداً قادمة. وبالمثل، تراكم الشعر أيضاً آثاراً شعرية لا تقل عن عشرة آلاف سنة. لذلك، ربما يصبح موت الشعر في النهاية حياة الشعر. عندما ينقرض «هومو سابينس»، سيموت الشعر معنا، لكن ربما يولد الشعر كأميبا أخرى مجهولة لنا. ذبول الزهور يعني ازدهار الزهور القادمة.

منذ عامين، نشرت الملحمة الشعرية «تشونغ – أغنية سيمتشونغ». ويقول النقاد إنها ربما أطول ملحمة شعرية كُتبت في العالم. والآن أتصور عملاً شعرياً آخر، ملحمة شعرية بعنوان «القدر» تغني للإنسانية. على عكس التراجيديات اليونانية القديمة، حيث يشمل الإحساس بالمصير تقلبات الفرد، وصعود وسقوط الأقوياء في عصر الآلهة وعصر الأبطال، ما أرغب في تصويره في «القدر» هو الرحلة الكاملة للإنسانية، دون تحديد، مصاحبةً لعمل الكون اللامبالي.

أريد أن أتعامل حتى مع حياة العالم ليس كشجرة واحدة، بل كغابة. أرغب في تجربة الجينات والحفريات الخاصة بالعمل الكوني التي تحتويها الغابة، وكذلك طبقاتها الجيولوجية. أريد إعادة تفسير حتى الفرد الوحيد في علاقته بالتشابه العائلي أو التجانس البشري عند أصله. على سبيل المثال، يتمثل موضوعي الشعري في إعطاء شكل سردي، كقصة مستمرة، للرؤية الهندية الآرية القديمة عن وحدة «براهمان» (الكون) و«أتمن» (الذات)، ولتجاوزها، مفهوم بوذا عن «اللا-ذات» (أناتا) والسببية والعلاقات (براتيتيا-سامتوبادا).

ما أعمل عليه جنباً إلى جنب مع مشروع ملحمتي الشعرية هو سلسلة بعنوان «قصائد العالم». حتى الآن، نشرت ثلاث مجلدات بمجموع 460 قصيدة. وسيصدر مجلدان آخران هذا الخريف. لا أعلم إن كانت ستصبح عشر مجلدات، أو إن كانت ستتجاوز 4,001 قصيدة في 30 مجلداً من «مانينبو» (عشر آلاف حياة)، أو متى ستنتهي. تظهر لوحات الماندالا البوذية التبتية العمل العظيم في محوه فور الانتهاء منه بتفانٍ. وأنا أيضاً أكتب القصائد دوماً، لكن بعد كتابتها، أتركها تغادرني. فالقصائد تخرج كغبار العالم، كغبار كوني.

وأكرر امتناني لصداقة دائرة الشعراء الشباب في ليون، التي شجعت انطلاقي الشعري في التسعينيات من بعيد. ومن هذه النقطة فصاعداً، سأكون نفسي بعد ليون.
¡Gracias!

صيف 2025

كو أون

 

نقلا عن الترجمة الإنجليزية لمقال كو أون «فأس الشعر» الذي كتبه كو أون خصيصًا للشعراء الشباب، على شكل خطاب شكر لجائزة ليتيُو. وقد تأثر الجمهور بشدة عندما قرأه كو أون في المهرجان. كتب كو أون المقال باللغة الكورية، ثم قام الأخ أنطوني والبروفيسورة سانغ هوا (زوجة كو أون) بترجمته إلى الإنجليزية، فيما قام الشاعر الإسباني الشاب بن كلارك، وهو مترجم مجموعة «فن الغيوم» التي نشرت في ليون احتفالاً بكو أون، بترجمته إلى الإسبانية من الإنجليزية. وقد قرأت المترجمة الدكتورة تشونغ النص، مقارِنةً النسخة الكورية الأصلية بالترجمة الإسبانية، وأجرت بعض التصحيحات في أجزاء منه. ترجم المقال لإنجليزية د. أشرف أبو اليزيد، مصر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى