أدب

رغيف الخبز

تكتبه: نجوى الزهّار

من على غصن شجرة ، نزل رغيف لملاقاتي .

قال لي : الدنيا ما تزال بخير .

: من أين لك أن تعرف ذلك ؟

الرغيف :سأحاول ان شئت .

يا أنت ، هل صنعت التاريخ أم أن التاريخ قد صنعك ؟

الرغيف : ولماذا أشغل نفسي بمثل هذه التساؤلات التي لا تفيد شيئا .

: ألا يهمك أن تعرف بداياتك ؟ كيف كان مشوارك وما أصبحت عليه ؟.

الرغيف : لا شيء يعنيني من هذه التساؤلات التي لا تؤدي الا نتائج متباينة، لها نفس قوة التأثير . فان كنت تقصدين أنني أستطيع معرفة الحقيقة . الحقيقة أين هي ؟ .

: ولكن الا تشتاق الى يوم عرسك مع الدنيا ؟ ألا تحن الى تلك الاحتفالات بقدومك ؟ .

الرغيف : كل لحظة هي يوم جديد وعرس جديد . المهم أني استطعت الافلات من كل التسميات والألقاب التافهة . فأنا الرغيف  . الرغيف في كل مكان وزمان .أعيش اندفاعي نحو الأمام ، نحو الأيدي التي تنتظرني لا أنظر الا الى العروق النابضة التي تزينها وأشفق على عناصر الكون من ذهب وماس وبشر ….. أشفق عليها في بعض الأحيان وأنا أراها سجينة خائفة خلف واجهات العمر ، تنتظر ثمنا لن يعوضها عن ابتعادها عن مناجمها وعروقها .ولكني في بعض الأحيان أشعر بها متآمرة مع صناعها لتخلد في حياة الكسل .

: تتكلم هكذا لأنك سهل ومتوفر .

الرغيف : بالقلب الواعي ذو البصيرة ، يعرف سري .

: سرك . منذ قليل كنت تحاول اقناعي بتواضعك ، والآن تقول لي سرك ما هو .

الرغيف : تخلي عن مبدأ النصر والهزيمة في نقاشك هذا، عندئذ ستعرفي تماما ماذا أعني . أما الآن فان لدي عملا كثيرا .

 

نظرت حولي ، فرأيت أمواج القمح حرة في مروجها. سمعت صوت المياه متنقلا بين بحر ونهر. عندئذ ابتدأ سر الرغيف يتضح أمامي. فالمعاني الجميلة لا تعرف لها بداية . فالقمح قد ارتضى حصدا .والماء أيضا  ارتضى حيزا صغيرا . أما الزمن فقد امتدت خميرته ليكون الرغيف شاهدا حيا على سر التوازن ، وجمال المركز. القمح مثيل الرغيف ، والرغيف هو القمح والماء مثيل الرغيف ، والرغيف هو الماء  . أما الزمن فهو الخميرة الأبدية لكل ما بهذا الكون .

يا رغيف الخبز  يا قصيدة كونية و يا حكمة ناعمة متلألئة بين ذراته . أعطني بعضا من سحر بساطتك وبعضا من خميرة خميرتك ، لعل في هذا يكون خلاصي .

آنا كارنينا من الصعب القول أني قرأته . فالقراءة عملية بتطوراتها المختلفة تأخذ من احساسنا ، طريقة تفكيرنا ، اندماجنا بعض الشيء ونعطيها بالمقابل بعض الشيء أيضا  ، أما قراءتي ولعل من الأوضح القول حياتي مع آنا ….. ففي كل قراءة من قراءاتي عشت حالات مختلفة لا تمت لبعضها بصلة ، بكاء ، انتشاء ، تمرد ، خوف ، تقاعس ، انتصار ، انهزام ، عبودية ، حرية ، ايمان ، كفر . ولكنه في كل الأحوال كان ملاذي . كان القشرة الصلبة التي لم أستطع أن أقف عليها ، وبالرغم من كل المحاولات الدائمة للاحتفاظ بهذا الكتاب ” قصة آنا كرنينا ” في مكان أمين ، الى أن جاء ذلك اليوم الذي بحثت وبحثت عنه ، الى أن جاءني نداء عبر سلة المهملات .

أمسكت بالرماد بين يدي ، فشعت بحرارة يدها ، اقتربت به من وجهي فأصبح هواء مشبعا بها . فاستنشقته شهيقا ما من زفير بعده . سمعت بكاءها وسمعت بكائي . عشت آلامها في قطار يدوس جسدها وعاشت ألمي فأكثر من قطار يدوس جسدي ودمائي لا لون لها لتعرف حقيقة موتي . فأنا لم أستطع الاحتفاظ بأرض صلبة أستطيع الوقوف عليها ، لم أستطع الاحتفاظ بأولادي ، فقولوا ما شئتم . اختارت الطريقة الأسهل …. لا تمتلك المقدرة على الصراع ، كل منكم سوف يحلل الموقف بشكل مختلف ، أما أنا الباحثة عن الحب ، الحرية ، الصدق مع النفس …. استسلمت وعدت للزواج ثانية بما تسمونه ارادة ” ارادتي الذاتية “وأتساءل اليوم كما تساءلت بالأمس ، ما هي الارادة ؟ هل حقا رجعت للزواج الذي هربت منه بإرادتي ؟ بالحقائق المجردة ، نعم . طلبت منه أن أعود …. أنا أعلم تماما أنني كنت في حالة ، على واجب التخلي عن ذاتي الأخرى ، ولكن من يقول لي عن هذا الشيء الذي كان يضغطك على روحي من داخلها ومن خارجها ، ما الصلة بينه وبين الارادة . وهل هو امتلك أيضا ارادته عندما سمح لي بالعودة بعدما زرعنا أنا وهو في البيت كلاما أقوى في وجوده من قطع الأثاث الموجودة …؟.

ولكن عندما يستمر الحوار بشكل لا ينتهي . أيكون ذلك بسبب رغبتنا في اقناع الآخرين بوجهة نظرنا التي نعتقد أننا محقون بها ؟   لا أظن ذلك … ان الحوار يستمر ويستمر لأن جزءا من رأي الآخر بنا بتصرفاتنا ، بأحكامه علينا يدخل في خلايانا ، يدور مع دورتنا الدموية ، يتمسك بعقلنا ، بإحساسنا ، فنحاور ونحاور لإبعاد ما نحب ابعاده عن حقيقة ذاتنا . فعندما كان يحاول مصادرة أمومتي …. كان بعض من كلامه يتمسك بجزء من داخلي ، شاعرا بعدالة أقواله . وعلى الرغم من آلامي الجسدية  والمعنوية ، فاني أعود الى تلك السنوات الغارقة بالطول ، بالمشاحنات ، بالانقسامات ، تلك السنين أشعر بالامتنان لها ، كما يشعر من امتلك منجما ولكنه لأسباب يعرف بعضها ولا يعرف الآخر لم يستطع الاهتداء لمحتويات منجمه الا عبر اصرار نجمة ليلية . وأنا في مرضي ، وحدتي ، ترددي ، في كل هذا وذاك امتلكت محتويات منجمي التي ما توانت على اعطائي ماسة مضيئة كلما اقترب  اليأس من حواف عقلي وروحي . وأتساءل كيف نعرف حقيقتنا ؟ بل أي جزء من تلك الحقيقة . هل نصحو يوما لنقول لذواتنا اننا ممتلكون لتلك الصفات ، لعله لا شيء مثل الصراع أو بالأخص الصراع بين الزوجة والزوج ما يجعل لصفاتنا أن تنفصل عنا . لنراها متجسدة أمامنا بسلوك . في هذه اللحظات عرف تماما أين نحن مما نعتقده من أنفسنا .

(من كتاب المؤلفة نجوى الزهار: ابتسامة بيضاء)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى