
أبي خلق محبا للجمال …….. لذلك لم يشأ أن نتزوج أي زواج . في ذاك الزمن كنا قد فاتنا قطار الزواج … ولكن أبي كان كريما علينا ، لا نشعر بالملل فالحفلات كانت تقام في بيتنا…. عندما تزوج أخي جاءت الراقصات.. المغنيات .. ولو ترين كم كان أبي سعيدا بوجودهن ….. ولكنه في الصباح عندما عرف بيت الشعر الذي ألقته زوجة أخي لأخي طارت أفراحه كلها …
( بيت الشعر يقول : هيم هيم يا شيخ البكري ، هيم هيم عوامه بقطري ، يجعل قبرك حليب مغلي ).
في ذاك الزمان كان على العروس أن تظهر أنها مطلعة مثقفة بحفظها بعض أبيات الشعر ، تلقيها للعريس في ليلة العرس . وأنت يا جدتي ماذا قلت لجدي في يوم عرسكما ؟ ماذا أقول له؟ أم ماذا قالت الأيام له ولنا ؟ . خذي القصة من بدايتها … كانت ثمة علاقة عمل بين أبي وجدك وأخيه … وعرفانا بجميل ابي ، أرسل له جدك سلة من التفاح تفاح الزبداني يا أيتها الورود ، طبقة تفاح ، طبقة ورد ،يا سلة التفاح ، تفاح الزبداني ، يا أيتها الورود …. ما فعلتم بجدي…. صمت أياما طويلة ولا يقطع صمته وشروده الا النظرة المتأملة لتلك السلة…. جاء يوما ، قال لنا : تجملن بأحسن ما عندكن ، فاليوم سنزور بيت صبحي في سوق ساروجه .
في هذا البيت تمازجت العائلتان …. الميدان بجذوره الدمشقية ، سوق ساروجه بتطوراتها حتى انه كان يطلق عليها باريس دمشق … الجهاز هذا الذي ترين في كل البيت هو جهازنا ….. ذاك الجهاز الذي أصر أبي على أن لا يكون جهاز مثله … على تحمل كافة نفقاته ، كان جميلا وما زال …. المشط بيدك يا صغيرتي . أنظري الى أحجاره ، الى براعة صنعه ، كل ما في البيت لا يجرؤ الزمن أن يضع بصماته عليه. ولكن يا جدتي لماذا هذا الاحمرار الثاني على وجهك ؟… اني أخاف عليك . اهدئي اهدئي …. كيف أهدأ وما تزال الصور ماثلة أمامي … قال لي أبي يوما : تعالي يا وديعة … في هذه الخزنة طاستان مليئتان بالليرات الذهبية هي ثمن الجهاز . رأيتهم بعيني ، لمستهم بيدي … في تلك الليلة غاب الصباح عن الوجود فقد غاب أبي . ذبل أبي . غاب الصباح ذبلت ورود سلة التفاح .
أصر أخي على موقفه . حزنت امي يا صغيرتي وما ان تحزن الأمهات حتى يحزن معنى العطاء من السكون . الأشجار السماء الأقمار الجبال والسهول تتلون تتمازج بذاك الحزن . فالمعاني الحقيقية تدافع عن ذاتها بذاتها …. لذلك ترين بعضا من الناس الذين لا يحفلون بمشارع غيرهم ، قد يصبحون سجناء أنفسهم، فهم في زنزانتهم وبيدهم مفاتيحها ولكنهم لا يستطيعون فتح أبوابها… وما من صعوبة تضاهي صعوبة ان يكون الانسان اسيرا لدى ذاته .
كان يوم العرس تائها بلا أبي . أما اليوم الذي أعقب العرس فهو اليوم الذي جعل أيامنا تتوه لسنين … قرع الباب… وفستان العرس مازال متمايلا على تلك الكنبة … لنعلم أن الذي جاء هم الدائنون . فقد رهن جدك البيت ليدفع ثمن الجهاز …. يا جهازا جميلا ماذا فعلت بنا وبهم ؟ … تمهل أيها الزوج فلن تتخلى عن دارك عن دارنا . لدينا أملاك ، تلك الأملاك أخذنا نصيبنا منها لسنوات قادمة فاستطعنا أن نحرر بيتنا من رهن الدائنين .
لكن يا صغيرتي ، ما ان بدأنا نتلمس أمور حياتنا الداخلية ببعض من طمأنينة .تراءى للحياة أن مشوارا آخر علينا أن نعيشه بكل تفاصيله واحزانه .
جمال باشا
كانت بلادنا بلاد الشام خاضعة لحكم الدولة العثمانية ، وكان جدك – ذو الأصول التركية – موظفا لديها . ولأنه المولع المتقن للخط العربي ، كان الخطاط الذي يكتب المراسيم العثمانية المهمة . وعندما طلب منه أن يخط المرسوم القاضي بإعدام خيرة شباب الشام ، وهو الذي يصدح داخله بموسيقى الزهد يترأف بالنملة فيحيد عن طريقها . رفض التوقيع ، بل رفض الوضع برمته . أعدم أبناؤنا إخواننا الشهداء ، هؤلاء الشهداء ، دخلوا منازلنا، أمسكوا بأحاديثنا، تلونت أيامنا بهم ،جاء الربيع مثقلا برائحتهم … كان الحزن وكان الجوع أيضا. أما هو فلم يستطع الاستمرار .
انتقال جدي
جاءني يوما وحاله حال كل المتصوفين أمثاله الذين يعرفون تماما متى تأتي لحظتهم ، فيتوهجون ، يتألقون ، كأن موسيقى الكون تأتيهم من أعماق السماء، فيتآلفون معها للدرجة التي يستعجلون معها لحظة الانطلاق .
هذه الأيام الثلاثة التي قضاها في فراشه ، لم يكن يوما بمثل هذا الجمال ، التوهج والتألق ، عيونه اتسعت من الرضا ، أصبحت بحرا شائعا لا أعرف من أين أتت مياهه .
أمسك بيدي لننزل هذا البحر سويا، أراد أن أفهم تماما حكمة تلك الموجات المتتابعة . وها أنت معي موجة من ذاك البحر . ثلاثة أيام ، جاءت الدنيا اليه بماضيها بحاضرها . بالكائنات التي اعتدنا على تسميتها الكائنات الحية وبتلك الأخرى التي أيضا اعتدنا على معرفتها بأنها لا تمتلك الحياة ، فأنا يا صغيرتي ما زلت لا أعرف تماما ما الفرق بينهما، ان كان هنالك من فرق حقيقي ، مخطوطاته كانت تنظر اليه من على الجدران ، وأيضا من داخل الدواليب . بعضها جاء يسأله ضما والبعض الآخر سكونا . ثمة مخطوطات ذاب حبرها شوقا ليديه التي ابتدأت تسير درب العودة . الفصول استعجلت مواسمها . فتركت المنازل وتحررت من منطق الزمن ، فهذا الشتاء الذي سقى وجهه بأمطار متلونة متلألئة، أراد أن يخبره عن كل الشتاءات التي مضت والتي سوف تأتي. هذا الشتاء امتدت يده للشمس كقيثارة متوازنة متماسكة الأوتار . تسمعه أحاديث الكون الصامتة تلك الأحاديث التي لا تنتهي . فالأشياء الواضحة التي نعتقد أنها صحيحة ، تكون في بعض الأحيان غير صحيحة ، فيما تكون الأشياء غير المنتظرة صحيحة أحيانا ……. تذكري هذا الكلام جيدا يا بنيتي .
تركت شعري مع خالتي وأسرعت الى تلك الغرفة التي بها صورة جدي . تتبعني بها نظراته أينما تحركت ، بكيت افتقادي لجدي .
مقامات الأولياء
في طريقي الى المدرسة أمر على مقامات الأولياء ، أضيء شمعة ،أضع فرنكا ( الفرنك عملة سورية من أصغر الوحدات ) …. فأستعيد جدي لحين ، أقول لحين لأني كثيرا ما أضعت جدي . فعندما كان يأتي دورنا لإقامة الحفلة الشهرية ، حسب العادة المتبعة في الحارة . ويبدأ العزف والغناء بأصوات أعلى من المعتاد ، كان حديث الصمت ينقطع بيننا ، بدايات الأشياء، نهايات الأشياء ، لا تعني شيئا بل هي الاستمرارية المتألقة لبذور تمتلك السر بوجود لا ينتهي .
قولي لخالتك أن تطيل تنورتك ولو قليلا ، فأنت قد بدأت تكبرين سريعا يا حلوة . هكذا قال لي صاحب الدكان الذي على باب حارتنا ولكن هل كبرت حقا ؟ . رجعت مسرعة لأمي لجدتي لخالاتي أقص عليهم ما قيل لي …. كانت المداعبات ، الضحكات ، وكان الاصرار على أن تظل تنانيري الأجمل والأقصر في الحارة .
مقاطع من كتاب (ابتسامة بيضاء) للمؤلفة نجوى الزهّار
في هذا البيت تمازجت العائلتان …. الميدان بجذوره الدمشقية ، سوق ساروجه بتطوراتها حتى انه كان يطلق عليها باريس دمشق … الجهاز هذا الذي ترين في كل البيت هو جهازنا ….. ذاك الجهاز الذي أصر أبي على أن لا يكون جهاز مثله … على تحمل كافة نفقاته ، كان جميلا وما زال …. المشط بيدك يا صغيرتي . أنظري الى أحجاره ، الى براعة صنعه ، كل ما في البيت لا يجرؤ الزمن أن يضع بصماته عليه. ولكن يا جدتي لماذا هذا الاحمرار الثاني على وجهك ؟… اني أخاف عليك . اهدئي اهدئي …. كيف أهدأ وما تزال الصور ماثلة أمامي … قال لي أبي يوما : تعالي يا وديعة … في هذه الخزنة طاستان مليئتان بالليرات الذهبية هي ثمن الجهاز . رأيتهم بعيني ، لمستهم بيدي … في تلك الليلة غاب الصباح عن الوجود فقد غاب أبي . ذبل أبي . غاب الصباح ذبلت ورود سلة التفاح .


