
في لحظات الشدة القصوى، حيث يسود الصمت وتغيب الكلمات، تنبثق أصوات أخرى، لا تُسمع بالأذن بقدر ما تُحَسّ بالقلب. أصوات ترتفع من عمق المعاناة، وتصبح أقوى من أي خطاب أو بيان. في هذا الأفق الإنساني العميق، يولد كتاب «الأمير النائم» للشاعر التشيلي كارلوس بينيا هيريرا، بوصفه فعل وفاء، وشهادة شعرية على قوة الروح الإنسانية، وعلى معنى الإيمان حين يتحول إلى صبرٍ ممتد عبر الزمن.
كارلوس بينيا هيريرا، شاعر تشيلي يبلغ من العمر خمسةً وستين عامًا، عاش في بوليفيا على مدى عشرين سنة، يحمل في تجربته مزيجًا من المنفى الداخلي، والتأمل الوجودي، والانفتاح على القيم الكونية. ومن هذا المنطلق، لم يكن كتابه «الأمير النائم» مجرد عمل أدبي، بل تجربة روحية وإنسانية، كتبها وهو يصغي إلى الصمت، لا بوصفه فراغًا، بل باعتباره امتلاءً بالمعنى.
يستحضر الشاعر في كتابه سيرة الأمير الوليد بن خالد بن طلال، لا من زاوية الحدث الطبي أو المأساة الظاهرة، بل من زاوية الإرث الإنساني العميق الذي صنعته هذه التجربة الطويلة من الصبر، والإيمان، والحب غير المشروط. فالأمير النائم، كما يقدمه النص، ليس جسدًا ساكنًا فحسب، بل رمزًا حيًا للثبات، وللقدرة على الحضور رغم الغياب، وللأمل الذي لا ينطفئ.
يقدّم كارلوس بينيا هذا العمل بوصفه تحية صادقة ومحترمة، لا للأمير وحده، بل لوالديه، اللذين يجسدان في نظره نموذجًا نادرًا للإيمان الراسخ، والحب الأبوي غير القابل للكسر. إيمانٌ لم تهزّه السنوات، ولم تُضعفه قسوة الانتظار، وحبٌّ ظلّ حاضرًا في كل لحظة، وفي كل تفصيل، وفي كل صلاة صامتة.
في هذا الكتاب، يحاول الشاعر أن يلتقط جوهر هذا الإرث الإنساني، عبر رحلة تخييلية في المكان والذاكرة. يتتبع خطوات الأمير المتخيلة، وآثاره التي تركها في رمال الرياض، وفي الفضاءات التي كان يحبها طفلًا وشابًا. الصحراء هنا ليست جغرافيا فقط، بل رمز للاتساع، وللاختبار، وللقدرة على التحمل. وهي في الوقت ذاته مسرح روحي تتقاطع فيه الذاكرة، والحنين، والإيمان.
«الأمير النائم» ليس كتاب رثاء، ولا قصيدة حزن، بل رسالة أمل وتأمل. يذكّرنا بأن أقسى المحن يمكن تجاوزها بالشجاعة، وبأن الإيمان والحب قادران على أن يكونا مصدرين لا ينضبان للقوة. إنه كتاب يرفض الاستسلام، ويؤكد أن الروح الإنسانية، حين تتسلح بالمعنى، تستطيع أن تصمد، بل وأن تُلهم الآخرين.
يرجو الشاعر، كما يصرّح في مقدمته، أن يجد القارئ في هذا العمل إلهامًا شخصيًا، وأن يشعر بحضور الأمير الوليد بن خالد في كل بيت شعري، حضورًا رمزيًا يتجاوز الجسد، ويتجسد في القيم: الصبر، الإيمان، الكرامة، والانتظار النبيل.
بهذا المعنى، يضع كارلوس بينيا هيريرا عمله في منطقة وسطى بين الشعر والتأمل، بين السيرة والرمز، بين الفردي والكوني. «الأمير النائم» ليس فقط كتابًا عن شخص، بل عن حالة إنسانية عامة، وعن سؤال مفتوح: كيف نحيا حين يُمتحن الزمن، وكيف نُبقي الأمل مستيقظًا، حتى في أقسى لحظات الصمت؟
إنه كتاب كُتب من مسافة جغرافية بعيدة، لكنه كُتب من قربٍ إنساني عميق، يؤكد أن القيم الكبرى لا تعترف بالحدود، وأن الشعر، حين يكون صادقًا، يصبح لغة عالمية للرحمة والوفاء.
كارلوس بينيا هيريرا
شاعر تشيلي
مقيم في بوليفيا







