

الانتقالُ دائمًا فعلٌ غامض. ففي لحظة الإخلاء نعود إلى الماضي المودَع في الكتب، والمراسلات، والصناديق التي تحتضن الذكريات، والتواقيع، والصور، وسلاسل المفاتيح، والهدايا الصغيرة. وتظهر أيضًا أشياء عبثية: عودُ آيس كريم مرسومٌ عليه شفاه. يذكّرني بأن ذلك المثلّج ذاب يومًا في حرارة فمٍ ما؛ احتفظتُ به كما يحتفظ المرءُ بأحفورة: أثرٌ تافه يسجّل قبلةً لم تُمنَح لي، لكنها حدثت على أيّ حال — في كريمةٍ متجمّدة — وخلّفت أثرًا فاتنًا.
تستيقظ المخيّلة. أكاد أستشعر رائحة المثلّج. أشعر ببرودة سطحه تتجوّل على شفتيّ، كقبلةٍ تعود من الماضي بفضل استدعاء صورةٍ بسيطة. وهكذا نمضي: نفكّك، نُعبّئ. نتوقّف لحظة، نحرص على ألّا نسمح للحنين أن يجمّدنا… ثم نتابع.
في الظروف العادية لا يتجلّى هذا الاجتياح بهذه الحدّة. كأنّ ألم الانتقال — تبديل الهواء، خوض المخاطرة، الاعتياد على أصوات أخرى، وجيران آخرين، وشوارع أخرى — لا يكفي، فيعود الماضي على شكل موجاتٍ تحاول أن تُغرِقنا. إنّه نزالٌ مُرهِق: يُضاف إلى الجهد الجسدي قلبٌ يخفق بعنف أمام هذا السيل من الذكريات التي حسبناها مخزّنة في مستودعات الزمن، فإذا بها تعود دفعةً واحدة، بإلحاحٍ يكاد يكون قاسيًا.
ومع ذلك تستمرّ المهمّة. تفريغُ البيت حتميّ: ضرورة، والتزام، وواجب. هناك مهلٌ زمنية. ومع اقتراب الحدّ الأقصى، نُسرع.
نكتشف — بلا حنوّ — أنّ لا وقتَ للمعالجة: يجب أن ننجز، أن نُغلق، أن نحمل.
الأقراص، والكتب، والكؤوس التذكارية، والزينة المشحونة برسائل وحكاياتها الخاصة، كلّها تبدأ بالدخول إلى الصناديق. تختفي عن النظر المباشر. ما كان منذ قليل مشهدًا داخليًا — البيت، الملاذ، معبد الخصوصية — يتحوّل إلى ضباب. حيث كانت أشياء مألوفة، لا يبقى سوى فراغٍ وغبار: آثارٌ تدلّ على أنّ شيئًا ما كان هنا، لكننا لم نعد نعرف ما هو، ولا أين كان موضعه.
ننظر إلى المرآة فنتعرّف إلى أنفسنا؛ ننظر حولنا فلا نرى شيئًا. كأنّنا في قلب حلمٍ فارغ. كأنّنا أُغلق علينا في بيتٍ تسكنه الخواء والأشباح.
وهكذا يختفي عالمنا الشخصي — تلك الأشياء التي تُعرّفنا وتحكي شيئًا عن مرورنا على هذا الكوكب — ليحلّ محلّه فراغٌ عارٍ أو صناديق كرتونية محايدة، مغلقة بعناية، كأنّنا نعيش في مستودعٍ لذكريات الآخرين.
في هذه التذبذبات، ما يزال شيءٌ ينقذني: اليقين بأنّه، رغم برودة هذا البيت وتحوله إلى مكانٍ بلا ملامح، فقد عشتُ هنا حقًا. في كلّ زاوية — حتى حيث يطلّ وزغُ غرفة الجلوس — كانت هناك قطعة من إسقاطي الداخلي. الأشياء، التي كانت ناطقة، صمتت؛ لكن ما يزال يسندني حضور لوحات مجموعتي المتواضعة من الفن التشكيلي.
بينما يفرغ البيت، تُبقيني اللوحات واقفًا على حافة الهاوية. الغرف لم تعد تروي شيئًا؛ بالكاد يبقى صدى عندما أنفخ أنفي، كإيماءةٍ ضئيلة لأتأكّد أنّني ما زلت هنا. ما دامت اللوحات باقية، فحتى مع استمرار فراغ البيت، أظلّ أعيش في هذا المكان — ولو بتلك الأمانة الأخيرة على الجدران. غير أنّها هي الأخرى بدأت بالهبوط، تاركةً إيّاي أكثر فأكثر في العراء.
هكذا ننتهي في هذه الانتقالات البطيئة والمتأنّية التي تصيبنا في المراحل العليا من الحياة. لأنّ المرء لا يُعبّئ أشياء فحسب؛ بل يُعبّئ نُسخًا من ذاته.


