
دراسة قصائد من ديوان “ابتهالات في محراب الذات”
للدكتورة أحلام بيضون
بقلم: دكتور يوسف حلاوي
ابتهالات في محراب الذات هو واحد من ثلاث دواوين شعرية، تمّ نشرها حتى الآن للدكتورة أحلام بيضون، وهي: “تقاسيم مقاومة” و”ابتهالات في محراب الذات” و “عزف على أوتار القاب” بالإضافة إلى كتاب حكمي بعنوان: “مرام الكلام”.
ديوان “ابتهالات في محراب الذات” يضمّ إثنين وثمانين قصيدة، وقد تناولنا بالدراسة إحدى عشر قصيدة منها، تمّ اختيارها عشوائيا.
في قصيدة ” أنا كل يوم في سفر”، ننطلق مع الشاعرة عبر الأثير وزخات المطر، ونعبر البوادي، ونخوض البحار، بحثا عن الدرر، ونلتقي كل ـنواع البشر. ماذا يعني ذلك؟ إنها الحرية في البحث والتنقيب في مختلف غياهب الوجود، هي دعوة للتخلي عن التقوقع والحجر الفكري، بخاصة عندما نراها تتفاعل مع شتى أنواع البشر، فيحق لنا من هذا المدخل الذي فتحته الشاعرة، أن نلتقي بأرسطو وشكسبير وغاليليو ودارون ألخ… ونغتني بكل صاحب إبداع في كل العصور.
طبعا الشاعرة لا تفرض علينا أي اتجاه في التفكير، ولا تختار لنا مثلا أعلى يهدينا، إنما القارئ هو مبدع آخر، لأن القصيدة الحقة تشع بالإيحاء، وإذا لم تكن كذلك، تصبح شبيهة بالنثر الذي يقتصر على المعنى الظاهر الواضح، ولا يخفي وراءه شيئا. أما هنا، فنرى الشاعرة تقول:
” أصوغ ألوان الصور
وخيالي يتبدّى في قمر” إنه الخيال المبدع الذي يمتطي لغة الانزياح بدل اللغة بمعناها القاموسي، كما هي حال النثر، لذا يحق للشاعرة أن تقول:
“أخزن كل أنواع الدرر” أو تقول: ” أناجي في بحاري ما استتر”
هي مهماز حضاري، لأن همها الكشف الدائم عن حقائق الوجود المستترة، والدرر المخبوءة، فلا مجال للوقوف، بل التطور الدائم، والسفر المتواصل في البحث عن سر الوجود.
في قصيدتها المعنونة “القصيدة” نراها فريدة في لحنها: “أنا في لحني فريدة” لماذا يا ترى؟ ذلك يعود لأنها تسلك طريقا مغايرا، على طرف نقيض للطريق الذي يسلكه الناس، نلمس موقفها هذا من خلال اعتبار نفسها “سؤال في قصيدة” و”تلاميح جديدة”.
إذن، هو تساؤل متواصل، وبحث عن كل جديد. وهذا الموقف هو موقف إنساني بامتياز، فلا سكون ولا جمود، بل حركة فكرية نشطة على الدوام. من هنا نفهم لماذا تصف تجديدها أنه “بين صمت ومطر”. فهذا الصمت هو تعمق في التفكير، يولّد مطرا غزيرا، أي ينتج عنه ثمار حضارية. وهي هنا تلتقي مع أبي تمام في قوله:
“مطر يقطر الصحو منه وصحو من الغزارة يقطر”
فهذا الصمت ليس سكونا أو ركودا، بل إنه يحبل ببذور الكشف والإبداع، لذا تشعر أنها فريدة، وترى نفسها غريبة عن السكون السائد لدى الغالبية العظمى من الناس. أما حلمها فهو: “حلم قمر”. هو حلم يحلّق في الأعالي، فلا يحدّه حدّ، إنه لانهائي المدى.
ونرى تأكيد ذلك في قصيدة: “جعلت العمر مدرستي”، فهي تلميذة الحياة بتشعباتها اللامحدودة، وهنا نرى أيضا غربتها عن الناس، إنها تقول:
“تهت وراء أحلامي”
و
“تركت الناس في وهد
ورحت أصوغ أيامي”
وهذا عين الشعر، فإذا لم تنقلنا الشاعرة إلى عالم جديد، وإذا لم نقفز معها قفزة لإنسانية حضارية، فالأفضل لها أن تصمت.
في قصيدة: “حين يهوي القمر بين يدي”، نرى لغة الجاز في أبهى صورها:
“أقبض على ناصية الزمان
وأفر هاربة
متسللة خلف السحاب”
و
“أشكل الأشياء فراشا
نحلا يجتذب رحيق الزهور
ويصنع شهدا
أوزعه قطرات، قطرات”
و
“أمتطي خيل الغمام
وأغالي في الغياب
أفرش الكون خبايا
وأغني لهوايا”
إذا فسرنا هذه الصور بمعناها الظاهر، لا نعطي القصيدة حقها. فالقصيدة الحقة تبدأ عندما تنتهي لغة النص، إنها الكشف عن عالم يحتاج دائما إلى كشف، وقد أنجزت شاعرتنا الدكتورة أحلام هذه المهمة، فعندما تقبض على ناصية الزمان، نحلّق معها إلى زمان جديد، مغاير لما هو سائد في زماننا، وعندما نهرب معها خلف السحاب، نهرب من واقعنا المرير البائس، الذي يعجّ بالمظالم، ويستفحل فيه التخلف والركود عن السير في الركب الحضاري. الآن تحولنا معها إلى فراشات وإلى نحل يصنع شهدا. أخذتنا إلى عالم جديد مفعم بالشهد الحضاري، وهي تغالي في الغياب عن هذا الانحطاط الملتف حول أعناقنا. إنها تمتطي خيل الغمام لتطير بنا بعيدا عما هو سائد، ونستكشف معها خبايا الكون التي كانت متوارية عن أنظارنا قبل أن تأخذ الشاعرة بيدنا وتزرعنا في أحضان الكون. هكذا يتجلى غناء هواها: “وأغني لهوايا”.
في قصيدة “سفر الروح”، تعاود السفر من جديد، إنها مسكونة بهاجس الكشف والتجديد. يتجلى ذلك بأبهى ما يكون السطوع في سفرها وطيرانها:
” تسافر روحي خلف التلال
وترقص جذلى حين الوصول
لنبع قرير وماء زلال
تسافر روحي عبر البراري
ومنها تطير خلف الطيور
تسافر روحي بين الغيوم
وفيها تآخي أرقى النجوم
تسافر روحي عبر البحار
وحين الولوج لقاع سحيق
تميل رويدا ولا تستفيق”
لإن حركية الخيال عند شاعرتنا الدكتورة أحلام، هي المبدعة لهذه الصور، وهي ليست مجرد ألاعيب فارغة، كما نرى لدى الكثيرين ممن يدّعون الكتابة الشعرية، لأنها تخفي وراءها كنوزا دفينة، وتريد الوصول “لنبع قرير وماء زلال”، يخرجنا من مستنقعنا الآسن، وتبتغي لروحها أن تآخي “أرقى النجوم”، بدل البقاء في كهف الانحطاط. إن دافع أسفار روحها المتنوعة، هو “الولوج لقاع سحيق”. ونترك للقارئ حرية التمعن في هذا القاع السحيق، وإيماءاته الغنية، إنها تريد البقاء فيه لاستقصاء كل خفاياه السرّية وأعماقه الحضارية.
في قصيدة “عدت أدراجي”، نرى الشاعرة في منتهى الجرأة، يتجلى ذلك في قولها:
“لا أبالي في خيالي من أتى مائي يصيد
كل همي أن أجوب مثل أسماك المحيط
لا أبالي لو أصاد، أو أموت، أو أطير
في سماء وألاقيه الخلود”.
إن غايتها هي الخلود، ولكن من هم الخالدون؟ إنهم عمالقة الكون، سواء في الشعر أو الأدب أو الفلسفة أو العلم، ألخ… فلا يخلد إلا من أبدع ابتكارا جديدا، أو كشف سرا مكتوما. لكن هذا يكلف صاحبه جهدا فائقا، وعناء شديدا، ونرى الشاعرة على استعداد لدفع هذا الثمن، حتى لو أدى ذلك إلى موتها، كما رأينا في أبياتها أعلاه، انطلاقا من عنفوان روحها: “عنفوان بي عتيق”. فمن تملكها لهذا العنفوان، لا بد لها من ملاقاة الخلود.
قصيدة “في الظلام” تكشف لنا رغبة عارمة في البكاء لدى الشاعرة: “شئت أن أبكي” ولكنها تستدرك:
“كيف أبكي من نجا
من حطام وفساد وفنا”
ودافعها إلى ذلك الحطام والفساد والفناء، وهي مزايا الواقع المستشري حولها، ولكنها نأت عنه، ونجت بنفسها منه، فلماذا تبكي إذن؟ تبكي لأن ما تبتغيه ليس مجرد خلاص لنفسها، بل هي فرد من أمة تريد لها الخلاص، وليست سعيدة في النجاة بنفسها. ونتيجة هذا الإحباط المطبق عليها، انتابها شعور بالهرب من التفكير أو الجدية في البحث عن الخلاص”
“لست أبغي أن أرى
أن أفكر
لا أفكر
ذاك أفضل يا ترى؟
ذاك أجمل؟”
ولكنها، مع ذلك، لا تريد الاستسلام لليأس، بل تريد لعقلها أن ينام ويستريح، فلعل النور ينبجس من قلب الظلام:
“اتركوا عقلي ينام
اتركوه ناعما في ذا المنام
علّه يقبس نورا
في الظلام
ذاك أبهى في الظلام”
يتضح من خلال هذه القصيدة بعد الشاعرة عم الأنانية، فطموحها ليس مجرد خلاص ذاتي، هي منقرسة في هموم الجماعة، التي يسيطر عليها “الظلام”، وموقفها الجماعي هذا متجذر لدرجة دفعتها للبكاء تفجعا على هذا الواقع، لأنه “حطام وفساد وفنا”
قصيدة “لا تذكروني في الهوى” تكشف لنا الحالة الوجدانية للشاعرة، إذ أنها قد فجعت بأحلامها العاطفية، لذا فهي تريد أن تسرح في النوى:
“لا تذكروني في الهوى
فلقد مللت
واشتقت أسرح في النوى”
فهل عدلت؟
فالابتعاد يخلصها من المعاناة القاسية:
“الريح عاتية
وأنا سكنت”
هنا نتساءل” هل الريح عاتية حول شاعرتنا فحسب، أم حول المرأة عامة في بلادنا؟ إن المرأة مقيدة بسلاسل حديدية تحيط بها من كل الجوانب. وإذا عدنا إلى العالم النفسي “فريد” نرى إلى “هي” التي ترمز إلى الرغبات المدفونة في أعماق الشخصية، نراها مكبوتة إلى حدها الأقصى، مما يدفعنا إلى التطرف و”الأنا الأعلى” بلغة فريد، التي تساير المجتمع، وتماري وتداجي، فيعيش الإنسان عندنا مكبوتا مقهورا، رجلا كان أو امرأة، واقع يثقل كاهل المرأة بأضعاف ما يثقل كاهل الرجل.
هذا الحرمان العاطفي يذكرنا بالشاعر أحمد شوقي في مطلع قصيدته: “سلوا قلبي”
“سلوا قلبي غداة سلا وتاب لعلّ على الجمال له عتابا
ويسأل في الحوادث ذو صواب فهل ترك الجمال له صوابا
وكنت إذا سألت القلب يوما تولّى الدمع عن قلبي الجوابا”
وهذا يعني استحالة الوصول للسعادة في الحب.
ونتذكر في هذا الميدان أيضا المتنبي حيث قال:
“نصيبك في حياتك من حبيب نصيبك في منامك من خيال”
قصيدة: “لي سؤال” تؤكد أن موقف الشاعرة من الحياة هو التساؤل الدائم، وعدم التوقف عند المنجزات التي حققها الإنسان في أي من المجالات، مهما تكن عظمة هذه المنجزات:
“طالبة أنا في كل مجال
أرشف الماء من النبع الزلال
أقصد القوت إلى أعلى الجبال”
و
أرصد النجم حتى أنال
منه أنسا وضياء وجمال
أذرع الوادي وأناجي المحال”
والواقع يؤكد أن كل إجابة على سؤال يسأله الإنسان، تولد أسئلة كثيرة، تحتاج إلى إجابات. وهكذا نشأت الحضارات من التساؤل الدائم. وشاعرتنا الدكتورة أحلام لا تريد إجابات سطحية عابرة، بل إجابات تنبعث من “النبع الزلال”، وتوصلنا إلى “أعلى الجبال”، وتنال من البحر “أنسا وضياء وجمال”، وصولا إلى “مناجاة المحال”. وكلها رموز فائقة الدلالة، تهصرنا هصرا، يدفعونا إلى أقصى مدى في ميدان الإنجاز الحضاري الإنساني. إنها رؤيا عميقة مصوغة بلغة الخيال الشعري، بلغة المجاز المبدع، فالشعر العظيم هو فلسفة عميقة، تحطم الأغلال، إنه فلسفة بلغة الجاز، وهذا تحقق على يدي الشاعرة.
في قصيدة “القرار” تؤكد الشاعرة أن موقفها من الحياة صادر عن قناعة راسخة لديها، ونابعة من ثقة تامة بنفسها:
“وحدي أنا قد اتخذت قراري
وكتبت فوق دفاتري أشعاري
ها قد عزمت واتخذت قراري
أن أكتفي بصحبة الأسفار
فنأيت عن صحب وتهريج لهم
قد حكت نور الشمس دفء دثار
وصنعت من إشعاعها أوتاري
وإذا أجوع لأقطفن من المدى أثماري
وعلوت أمرح فوق أجنحة النهى
وأسيل من غيماتها أمطاري”
إن قرارها يتولد وينبعث من أسفارها، وينأى بها عن صخب وتهريج الواقع حولها، فهي ترفضه، وهذا بديهي لشاعرة حاكت “نور الشمس دفء دثار”. ويلفتنا بصورة خاصة قولها: “وإذا أجوع لأقطفنّ من المدى أثماري”، بالله عليكم، كيف يمكننا تصور هذه الأثمار المقطوفة من “المدى”! الطاقة الإيحائية هنا تبلغ حدها الأقصى، ومهما حاولنا لن نصل إلى حدود تتوقف عندها الرؤى والانفعالات والإشعاعات المتولدة من “أثمار المدى”.

قصيدة “يا سطوري لا تبالي” توضح لنا أن الشاعرة على علم بأن نقدا لاذعا سيوجه إليها، وهذا بديهي من جراء موقفها الحضاري، المتجدد الثائر على “صخب وتهريج” هؤلاء المتنفذين في أرجاء الواقع المحيط بنا.
هنا نتساءل: هل نكصت أو تراجعت شاعرتنا؟ إطلاقا، فهي تقول:
“يا سطوري لا تبالي حين يضنيك الصياح
أنت عنوان المقال حين يدعوك الكفاح
أنت ندّ في النضال
يا سطوري لا تبالي سنفيق
ونعلّي صوب آفاق الكمال
يا سطوري لا تبالي إن تكوني لي رفيق
لا تبالي يا سطوري لا تبالي”
وتقول:
يا سطوري لا تبالي حين يشقيك الصراع
… حيث يستشري الضباع”
وكيف لها أن تستسلم لضباع التخلف والطغيان، بل تقابل ذلك بالإصرار على الاستنارة بالنجوم:
“واستشيري واستنيري بنجوم في الأعالي”
فكم نحتاج حتى نصل إلى التصورات التي توصلنا إليها هذه الاستنارة بالنجوم في الأعالي؟
في قصيدة “هل أفقت” نواجه شاعرة تشتعل بين جوارحها رغبة عارمة كي نستفيق نحن ونرافقها في هذه الاستنارة:
“هل أفقت؟ هل تلمست المصير؟
هل ركبت الخيل سهما عابرا نحو الأصيل؟
هل جمعت الكون…
هل تحولت أثيرا، وتماهيت
مع الأماكن والعصور؟”
أترك للقارئ التحليق في أجواء هذه التصورات المبدعة.
هذه دراسة لبعض قصائد الشاعرة الدكتورة أحلام بيضون، ولكن لا بد من العودة إلى ديوانها “ابتهالات في محراب الذات”، والتمعن في قصائده كي نتمكن من الولوج إلى عالمها المترامي الأبعاد، الواسع المدى.
الدكتور يوسف حلاوي (دكتوراة في الأدب العربي، أستاذ جامعي).




