
الدكتورة جيهان فايز في تصوير حقيقي ومعرض فارق في العشرين عامًا الأخيرة من عمر التشكيل المصري
— تخضرّ الأرض —
وينبت الزرع واقفًا، رافعًا رأسه للسماء،
حين تلد مصر كل يوم مبدعًا جادًا وباحثًا متفردًا،
يخبرنا بأن التاريخ لا يتوقف.
نعم، هناك أجِنّة شوّهتها حروب الغباء،
ونفوس الحقد، وأمراض العصر البالي،
لكنها مصر،
التي يسكنها الباحثون والحالمون فقط.
ابحث في باطن الأرض،
اترك مقاهي التقويل، وكراسي المعقّدين،
وراكبي قطارات العفش المحمّلة بأمراض العصر.
صفِّ ذهنك، واختر قبلة روحك،
وأقم شعائر سلامك وأمنك عندها.
في معرض جيهان فايز، الأستاذ والدكتور في كلية الفنون الجميلة بالمنيا – صعيد مصر،
لا تحتاج كثيرًا إلى الفحص أو التدقيق لتعرف تفردها،
وأنها لا تقلّد ولا تنقل إلا عن روحها الداخلية،
ولا تتشابه مع أحد،
إلا هي.
أول الإبداع والاستدلال عليه هو ما يدهشك،
ما يخطف قلبك،
مرتكزًا على آليات الصدق، والخصوصية، والدهشة،
ومصداقية الفنان في بحثه، وتمسكه بخط إبداعه،
وعدم الرقص على أحبال وهمية لمدارس غربية
أو فنانين سابقين.
فالعشرين عامًا الماضية احتفلت الحركة التشكيلية
بكمٍّ من المزيفين والغشاشين، وتجار الفن المضروب،
كم فاق الخيال والحدود.
فحين يقع بصرك، وتتحرك بصيرتك تجاه فنان أو فنانة
تقدّم شيئًا مختلفًا مثل الدكتورة الفنانة جيهان فايز،
فلا بد أن يقف قلبك عند تلك الإشارة الحمراء:
توقّف هنا… فن حقيقي،
هنا بحث هادف،
هنا مصداقية الفنانة
التي لم تدّعِ الشطارة أو الفهلوة.
هي فنانة تؤكّد عشقها لفنها،
لكونها أستاذ جداريات أو تصوير جداري،
فأعمالها تعكس تلك الحالة،
تقدّم الفكرة ببساطة إنسانية،
لكن بصعوبات تقنية هائلة.
— الخصوصية عند الدكتورة الفنانة جيهان فايز —
في الماضي،
كانت تقدّم الفنانة أعمالًا تنسجم مع روحها وصدقها،
بتقنيات مختلفة وسهلة،
كانت تقدّم السهل الممتنع.
فوجدت أن هناك ناقلين ومقلدين كثر.
نعم، أنا شاهد هنا.
قرّرت الفنانة اللعب في ملعب أكثر صعوبة في التقنيات،
ربما يهدي الله الغشاشين ويبعدهم عن أعمالها.
ذهبت إلى خصوصية التقنيات،
والتفرد بصناعة الخطوط،
والإبحار والسفر اللوني الحالم.
— الدهشة —
المدهش حين تدخل المعرض،
فلا بد أن تضبط بوصلة مشاعرك،
لأن هناك معارض حقيقية
لا بد أن تدخلها بقلبك،
ومعارض تدخلها بقدمك بنصف حذائك
وتهرب بالنصف الآخر.
معارض تدخلها بقلبك،
مثل هذا المعرض الفخم القَيّم.
فالمرور بين اللوحات في تلك اللحظات
يصنع حالة تفتح شهية عقلك
على التفكير،
وعلى إعادة ترتيب أوراقك،
واستعدادك النفسي للمتعة البصرية.
وكيف يدهشك اللون، والبحث، والخط،
يظهر بصيرتك،
وينظّف حدقة بصرك،
ويروي عطش الكرة المثبّتة من عند الخالق
وسط عينك.
— الخطوط المرسومة بين الاستغناء والحضور —
يختلف الفنانون،
كلٌّ يدلي بفتاوى عقله.
هناك من يقول إن الاستغناء عن الخطوط أفضل،
وهناك من يرى زحامًا شديدًا أو منافسة مع اللون.
كل شخص وحالته،
لكن أين احترام رؤاي ومشاعر الفنان ذاته؟
خاصة أنني أرى تلك الخطوط
تكمّل لعبة الدهشة،
وتؤكّد عشق الفنانة لمسار بحثها في الجداريات.
الخطوط تتراقص طربًا في غزل اللون،
الخطوط هنا، في زحامها أو نقصها حسب مشاعر الفنانة،
بمثابة عصا في يد مايسترو
يتجه بها نحو العازفين،
نحو إرشاد بصيرتها إلى الرؤى العميقة داخل اللون.
اللون نفسه، الواقع بين الساخن جدًا والهادئ حينًا آخر،
يؤكّد على جماليات العازفة.
فأرجو مشاهدة الحالة كما هي،
دون فتاوى،
ودون مشاهد يدخل العرض
ليدش كلامًا محفوظًا من زمن النقد البائس
ورصّ الجمل المحفوظة.
خاصة أن الخطوط تمثّل حالة من الانسيابية
المعطّرة بمعرفة تاريخ اللوحة الجدارية.
الخطوط أساسية في حالة الفنانة د. جيهان،
وليست إضافية كما في حالات كثيرة أخرى.
— العنصر الزمني وسحر اللون —
أعود للدهشة،
ولكن هنا دهشة المزيج الزمني بالفعل التصويري.
في لوحات دكتورة جيهان،
للزمن ضرورة حتمية.
لاحظ من خلال معالجة اللون والطائر مثلًا:
هناك شكل لطائر يبدو منكس الرأس،
وهذا انعكاس لحظة زمنية.
هناك طائر حالم،
هناك طائر عاشق،
لا يوجد شبه بين طائر وآخر،
مما يؤكّد على العنصر الزمني
في لحظات مزاجية الفنان،
وتحديد بوصلة وقت إنتاج أو إبداع اللوحة.
ثم حالة اللون المختلفة
طبقًا للجسد المرسوم:
مرة جسد يعاني التشويه،
وآخر يؤكّد الحاضر،
وآخر ساحر في سماء الحلم مع النجوم.
الزمن أساسي في مزاجية اللون
وحضور الطقس،
فلكل عمل طقس خاص،
رغم وحدة المعرض.
لكن اختلافات العناصر المزاجية،
التي تختلف حتى في مقاس العمل،
فهي تعمل على عديد المقاسات،
والتفاصيل، واللحظات،
وتؤسّس العمل تأسيسًا خاصًا بها،
مدججًا بعناصر الكولاج
التي تخدم السطح والطقس اللوني.
معرض لا بد أن يُشاهد عدة مرات،
لأنه معرض فارق في تجربة الفنانة،
وفي التشكيل المصري
في العشرين عامًا الأخيرة.

باريس – القاهرة – متحف دارنا – عكاشة




