جاليريشخصيات

سوزان فلادون سيدة الحلم عند تولوز لوتريك

عبد الرازق عكاشة يكتب آخر مقالات باريس في هذه الرحلة: الإبداع والقفز في فضاء اللامتخيل

كان يجوب الصبي الأرصفة المثلجة بلونها الأصفر، الذي يعكس صوت الليل الموحش. كانت مصابيح الكيروسين تضيء الحانات الحمراء الغارقة في ثلج الليل الحزين، وفرشاة تغرد في الحانة لتسابق آلات العزف. عند كل مساء، ينتظر لوتريك سوزان على ناصية شارعنا الغارق في صفحات كتاب التاريخ المقدس، على ناصية الطاحونة الحمراء.

 

من صفحات ذلك الكتاب، ترتسم صورة سوزان فلادون، التي لم تكن مجرد سيدة تحب من منطق عشق جماليات الشكل فقط، كغيرها من النساء اللواتي يتباهين بمساحيق التجميل والصدور المنتصبة والأجساد ذات المنحنيات المظللة تحت الملابس. فلادون كانت سيدة تعشق من ثقافتها، فهي من النساء اللواتي يحببن لأجل عقولهن، لحضورهن، فهي الروح التي تسكن العتمة فتشعل إضاءتها.

كانت تقتني أعمال أصدقائها وتتبادل معهم اللوحات، تحرك الأرصفة وتعزف من أجلها الألوان أنشودة السلام. فمن مقتنيات سوزان عمل الفنانة جولييت روش، التي ولدت في باريس عام 1884، وعاشت قرابة مائة عام حتى وفاتها عام 1980. العمل هو صورة ذاتية في مدينتها سورسين، قرابة عام 1925، زيت على كرتون. أصبح من مقتنيات مركز بومبيدو، المتحف الوطني للفن الحديث في باريس، كهدية من مؤسسة ألبرت جليزيس، وشراء أصلي من أسرة فلادون.

كانت تحبها فلادون وتعشق خطوطها المرسومة، رغم أنهما ربما لم تلتقيا شخصيًا، لكنهما شاركتا في صالونات الخريف والمستقلين في بداية عشرينيات القرن الماضي، حيث عرضت كلتاهما مرتين في صالون المستقلين، ومرات أخرى في صالون الخريف. في عام 1920، رسمت فلادون لوحة تصور نساء يرتدين ملابس بعيدًا عن القواعد المعتادة للتمثيل الأنثوي، متبعة منطق الأفانغارد الجديد (أي طريقة طلائعية مستقبلية في التصوير).

أما الفنانة روش، فرسمت نفسها كامرأة عصرية في وسط الريف الفرنسي الساحر في مدينة سورسين في تلك الحقبة. كانت حقول وحدائق سورسين نموذجًا للتأثيريين، خاصة بيسارو ومونيه وجوغان وغيرهم. وكانت الموضة في تلك الفترة تمرد المرأة الفرنسية ومحاولتها اقتحام عالم الثقافة الرجالي في صالونات الشعر والأدب والتشكيل. فرسمت روش نفسها في هيئة فتاة بملابس رجالية، تتكئ على الدرابزين، وتتخذ وضعية شهوانية، تمزج بين الرغبة في الأنوثة والقوة في التكوين، بشكل مريح لها وواثقة من نفسها، وتركز نظراتها على المتفرج، وكأنها تطلب منه أن يكون شريكًا في المشهد، وألا يكتفي بمجرد المطالعة.

هذه هي الرؤية الطلائعية الجديدة والساحرة لعمل روش، الذي جعل فلادون تغرق في تأمله وتسعى للبحث عن تلك النماذج التي تطمئنها على نفسها وبحثها الإبداعي. فلادون كانت تعرف وتتفاعل مع كبار المبدعين في عصرها، لكنها اختارت تولوز لوتريتك تحديدًا، هذا الفنان صاحب المرض الجسدي (تقزّم جسده)، المختبئ في معطفه باستمرار، وذلك الجسد الذي لا يتجاوز ١٤٨ سم، وكذلك رأسه الكبيرة المختبئة دائمًا تحت شابو أسود ضخم. كلها علامات ودلالات على مزاجية فلادون وثقافتها المختلفة عن فتيات عصرها أو صديقاتها، اللواتي عملن معها في نفس المهنة كموديلات، لكنهن انسحبن مع تيارات الحياة إلى عوالم أخرى.

لم نجد دليلًا أقوى على شخصيتها الرائعة من ذلك العمل الذي عُرض في صالون الخريف عام 1931، لوحة لسيدة ذات صدر عارٍ. وهنا يمكن للقارئ أن يساهم بفهم غير معتاد في قراءة العمل، فهو عبارة عن لوحة متوسطة، زيت على كانفاس. في تلك المرحلة، لم يكن معتادًا أن تستخدم الفنانات الصورة الذاتية بطريقة غير مباشرة في تصوير العري. لكن فلادون وضعت قانونًا خاصًا بها، لتكسر القواعد التقليدية للأنوثة في الرسم.

امرأة قوية، عنيدة، مثقفة. والعناد هنا ليس مجرد رفض تقليدي، بل هو تحدٍ إبداعي، وتحريض على إنتاج ما هو جديد ومبتكر، وليس عنادًا من أجل الخلاف. ففي عمر ٦٦ عامًا، هل تتخيل أيها القارئ والقارئة الباحثة في علوم الجماليات، أن ترسم الفنانة لوحة ذاتية لنفسها؟! لقد كانت المرة الأخيرة التي لجأت فيها إلى المرايا كموديل، لتتخلى عن المثالية بشجاعة نادرة، وترسم، على غير المعتاد، عملًا يعكس الإثارة الجنسية لأجساد النساء، في هذا العمر. رسمت نفسها بملامح وجه حادة، بشفتين مشدودتين، وثديين مترهلين قليلًا، لكنها تعلن عن أنوثة صريحة، كاشفة عن العلامات الأولى للشيخوخة.

كم أنتِ جريئة، شجاعة، مبهرة!

رسمت أول لوحة لفنانة عجوز عارية، لتؤكد أن لا عجز في الروح، وأن الأعمار مجرد أرقام في دفتر الزمن، وتقلب بذلك الرؤية الجمالية السائدة لجسد الأنثى الشابة في لوحات الآخرين مثل ديغا وسيزان ورينوار وغيرهم.

الجماليات البصرية هي الغرق في تحليل النفس البشرية، وتقديم رؤى مستقبلية للمجتمعات، أما رسم الماضي وحكاياته، فهو فن مختلف يخص الفرد ولا يخص المجموع الباحث عن رؤى إنسانية. الفنون والثقافة هي الرؤية المستقبلية، أكثر من مجرد النوم بجوار التاريخ.

ولنا حكايات أخرى مع فلادون، ومقارنات قادمة في الأيام المقبلة مع هذه السيدة المبدعة، التي أعجبت بلوحة الفنانة جولييت روش، فقررت أن تقفز إلى مساحة أبعد من مساحتها، لتحجز مكانًا مختلفًا إبداعيًا.

باريس. عكاشة. متحف بلدنا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى