
معرض تستضيفه قاعة الباب بدار الأوبرا المصرية
بعد عودته الثانية إلى الإسكندرية قبل وفاته، يقول الشاعر اليوناني الشهير كفافيس: “أيُّ مكانٍ أجملُ منكِ يمكنُ أن أستقرَّ فيه؟ فوسطَوجوهكِ أجدُ المَبغى والمُنتهى.” نعم، بين كفافيس وماهر جرجس، يتردد السؤال: أيُّ مكانٍ في العالم أجمل من الإسكندرية؟ بين حروفكفافيس وسحر اللون الأزرق عند الفنان السكندري ماهر جرجس، ينتفض قلبك، وتنهض طاقات عالمك السحري. ماهر جرجس، سفير اللون،الفنان السكندري المحترم الرصين في أعماله وعالمه، اختار زوايا وأبعاد ومساحات أعماله بدقة وحرفية وحِرَفَنَة.
ضوءٌ أم طاقةٌ نورانية؟
زاويا ومساقط الإضاءة وتنوعها، والموضوعات وأشكالها، جميعها تتجلى في أعماله. فتلك الإضاءة ليست مجرد إضاءة للظل كما هو متعارفعليه عند الكثير من الفنانين.
إذن، ما هذا الضوء؟ وهل هو ضوءٌ أم طاقاتٌ نورانيةٌ متحركةٌ من عالمٍ سحريٍّ مُبهر؟
في لوحاته، يتحول الضوء إلى نور، والنور إلى إشعاعٍ يخرج من ضياء روح الفنان، ليلتقي بعذوبة اللون، وكأنه يعزف نوْتَةً موسيقيةً بهدوءٍورصانةٍ وتمكن.
التعبير والتجريد والهندسة
تحتارين، سيدتي، ويحتار عزيزي المتلقي، هل هي حالةٌ تعبيريةٌ أم تقترب من التجريد الهندسي؟ هل تستند إلى الرمزية في إشاراتهاوأبعادها الواضحة؟ هل يرتكز المعرض، في منحاه الإبداعي، على التقنيات الديكورية؟
الفنان ماهر جرجس عمل في مجال الديكور لفترات طويلة، وتقاسيم أعماله تميل إلى الديكور الهندسي.
لكن هنا يبرز السؤال: هل هو تكوينٌ ديكوريٌّ، أم مقاماتٌ موسيقيةٌ وألحانٌ شرقيةٌ تُعزف بألوانٍ سكندرية؟
إنه لغز، لكنه واضحٌ في موسيقى العمل وأرواح شخوصه الحالمة، التي تشبه مشروعَ مومياواتٍ فرعونيةٍ سعيدة، تتحرك وسط القاعة، داخلبوتقة اللوحة وسحر المكان.
سؤال الإبداع والتأثير
البحث عن اتجاه الفنان يطرح أسئلةً مشروعةً على المتلقي، فحين تتابع أعماله، وتجد نفسك في بحر التساؤلات، تدرك أن المعرض قد أثّرفيك، وغير بوصلة مشاهدتك، وهزّ قلبك، وحرك وجدانك، وأثار عقلك. لقد جذبك موج بحر الفنان، المحيّر والمدهش! ولكن، أيُّ منطقةٍ فيالإبداع يسكنها ماهر جرجس؟ هل يقف عند التعبير والرمز والتجريد، أم يرسم مقاماتٍ موسيقيةً لا يدرك تفاصيلها إلا مهندسو الديكور؟
سفير اللون أم سفير الطاقة؟
حين هممتُ بمغادرة المعرض، حدثتني نفسي: أين أنا الآن؟ هل كنتُ في سفرٍ لونيٍّ، أم كنتُ باحثًا في الجماليات المختلفة؟ غارقًا فيتفاصيل الأزرق الساحر، والأصفر المشع بألقه الصوفي؟ الأزرق الفاتح السكندري، الذي يختلف عن الأزرق النيلي، الذي يقترب من لونالفنان الفرنسي الشهير إيف كلين.
بين الأزرقين، سافرتُ في رحلة، وحين غادرتُ القاعة، تاهت عيني عن الصديق حسام ربيع، إذ كنتُ سارحًا في بلورة لون الفنان، أحدثنفسي: “كنتُ عند سفير اللون!”
ثم نهضت على قلبي، فوجدته واقفًا أمام القفص الصدري، يسألني: “هل هو سفير اللون أم سفير الطاقة؟” فهناك طاقةٌ إشعاعيةٌ يعكسهااللون على جسد المتلقي!
سفر التكوين واللعب الحر
لقد شاهدتُ تكويناتٍ تقتربُ وتبتعد عن أعمال العديد من الفنانين العالميين، لكن المختلف هنا هو مزاج الفنان الحر. التكوين عند ماهرجرجس ابنُ الحرية المدروسة، الحرية التي تنطلق من وعيٍ هندسيٍّ إلى فوضى الروح. وفوضى الروح هي التي تشكل أجساد وأشكالًاتخدم مشروعه البصري، سواءً كانت في البحر أو الكافيه أو بين جوقة العازفين. وسط زحمة اللون وفوضى الروح، ينتفض الفنان ليقبضعلى التفاصيل، على الشكل، على إحكام التكوين، ثم يُخلي الزحام من حول الشكل، ليظهر بطل التكوين بحُلّته اللونية الخاصة.
معرضٌ مدهش! ثقافة اللون ولون الثقافة
بعد رحلة البحث والتجوال في المعرض، رغم كثرة الأسئلة، تبقى النقاط الأساسية واضحة. فهذا الفنان يعتمد على خبراتٍ عميقةٍ، لكنهاليست وحدها الأساس، بل هناك ثقافةٌ رصينة، قائمةٌ على وعيٍ أصيل. ثقافته تنطلق من الحكاية والأساطير المصرية العريقة، لكنها موظفةٌبذكاءٍ، فلا تسقط في فخ تغييب الوعي كما عند بعض السرياليين. ثقافته القبطية، وهي ثقافةٌ غنيةٌ وعميقةٌ بعمق حضارة مصر، إلى جانبوعيه الكبير بالثقافة الإسلامية، التي تتجلى في التلخيص والتجريد واللون كثقافةٍ اجتماعيةٍ معاشة.
هذا إضافة إلى ثقافته المسرحية، التي تتضح في أسلوب تلوينه. وأنا أتجول بين الأعمال، تساءلتُ كيف استطاع الفنان أن يُلوِّن كل هذهالثقافات داخل باليتة ألوانه بذكاء؟
ختامًا
هنا، تبرز ثقافة اللون مكملةً لتلوين الحالة الثقافية عند سفير اللون ماهر جرجس، في قاعة الباب، تلك القاعة التي أسسها المبدع الراحلأحمد فؤاد سليم، والملحقة بمتحف الفن الحديث. لقد غمرني معرض ماهر جرجس بالفرح والدهشة، ولم أنسَ المربع الصَّدَفي أو الزجاجيالأزرق، الذي يضيء أطراف إطار كل زاويةٍ من أعماله. إنها ثقافة العين والتعويذة، وربما ثقافة عشق الأزرق الحالم.
نعم، إنها التفاصيل المدهشة في مدرسة الفنان ماهر جرجس. أدعوكم، أصدقائي، إلى إيجاد وقتٍ لزيارة هذا المعرض المهم والمميز، “دروبحانية“. وأنا أقول: اسمه يعكس خبراتٍ قويةً!
القاهرة – متحف دارنا
بقلم: عبدالرازق عكاشة