إعلامجاليري

في انتظار مانديلا سوريا

بقلم: نهى سويد، ناقدة سينمائية من سوريا

مورجان فريمان، 2009، في دور نيلسون مانديلا، فيلم Invictus

تشكلُ السينما بما تحملُ من قوةِ تأثيرٍ وحضورٍ إحدى روافعِ بناءِ السلامِ والعدالةِ في المجتمعاتِالممزقةِ. حيث تُظهِرُ التشظي الداخليّ لهذه المجتمعاتِ، وتفتحُ أبوابَ الأملِ في زمنِ الانكسارِ. فيلمُInvictus (الذي لا يقهرُ) يُقدّمُ مثالًا حيًّا على قدرةِ الفنِّ في ردمِ الهوةِ بين الماضي والقادمِ، وتقديمِالتسامحِ كخيارٍ لا بديلَ له.  

في السياقِ السوريّ قد يكونُ هذا العملُ السينمائيُّ درسًا حقيقيًّا يُعلّمُنا أنَّ السلامَ لا يولدُ إلابجرأةِ مواجهةِ الحقائقِ وخلقِ مساراتٍ جديدةٍ من الأملِ والوحدةِ.

في Invictus، يَسْبُرُ المخرجُ كلينت إيستوود أغوارَ لحظةٍ مفصليّةٍ في تاريخِ جنوبِ أفريقيا، ليقدّمرؤيةً سينمائيةً يمزج فيها بين الأسطورةِ الإنسانيّةِ والتاريخِ السياسيّ، في قصةِ نضالِ نيلسونمانديلا، الذي أرسى بيدهِ أُسُسَ السِّلْمِ الأهليّ. وهو طرحٌ يوازن بين العُمقِ السياسيّ والدراماالإنسانيّة. الفيلمُ، الذي استقى مادّتَهُ من كتاب Playing the Enemy لجون كارلين، يُقدّم صورةًمُستلَّةً من الواقعِ السياسيِّ المُعقَّد، حيثُ يصبح مانديلا قائدًا بديعًا، يعمل جاهدًا على تطبيعِالعلاقاتِ بين شَظايا المجتمعِ التي مزّقها العنفُ، مستخدمًا أدواتِ السياسةِ الاجتماعيةِ التي تُفجِّرالتساؤلاتِ حول مفاهيمِ العدالةِ والمصالحةِ.

في سوريا، كما في جنوب أفريقيا، نجد أنفسَنا أمامَ تساؤلٍ وُجوديٍّ: هل يمكنُ فعلًا بناءُ المستقبلِعلى أنقاضِ الماضي؟ وهل المصالحةُ حقًا أداةٌ للعدالةِ في ظلِّ ذاكرةٍ جماعيةٍ تُثقِلُها الجراحُوالتضحياتُ؟

بينَ فلسفةِ التسامحِ واستراتيجياتِ المصالحةِ، يتخذُ مانديلاالذي جسّد شخصيتَهُ حدَّ التماهيمورغان فريمانمن لعبةِ الركبيِّ الرياضيةِ أداةً لإعادةِ بناءِ الأمّةِ، وتوحيدِ أجناسِها المختلفةِ. فريقُسبرينغبوكس، الذي يُنظرُ إليهِ، في ذلكَ الحينِ، على أنه رمزٌ للهيمنةِ البيضاءِ، يكتسبُ في الفيلمِدلالةً أعمقَ، إذ يُنقَلُ من كونهِ أداةً للفرقةِ إلى وسيلةٍ لبناءِ الجسرِ بينَ عوالمِ مُتباينةٍ، عبرَ فكرةٍبسيطةٍ، ولكن معقّدة في تأثيرهاالوحدةُ في التنوّعِ“.

سيناريو الفيلم، والذي كتبه أنتوني بيكهام، يبيّنُ بوضوحٍ أنَّ مانديلا لم يقتصرْ على استخدامِالركبي كرياضةٍ ترفيهيةٍ، بل اعتبرها وسيلةً لزرعِ قيمِ التعاونِ بين الجماعاتِ المتناقضةِ. من خلالِتشجيعه لفريقِسبرينغبوكس، استطاعَ مانديلا أن يضعَ أسسًا لدولةٍ جديدةٍ تتناغمُ فيها هويّاتُهاالمتعددةُ. لقد كانت الرياضةُ ساحةً للفوزِ المشتركِ، فليس العرقُ أو اللونُ هو ما يحددُ الانتماءَ، بلالإرادةُ الجماعيةُ التي تهدفُ إلى تحقيقِ رؤيةٍ واحدةٍ لشعبٍ واحدٍ.

ملصق الفيلم

يقفُ التاريخُ السوريُّ شاهدًا مثقلًا بالأحقادِ، متأرجحًا بين الذاكرةِ والخرابِ. كيفَ لأمةٍ نهشتهاالحربُ أن تستولدَ من هشيمِها جسدًا واحدًا؟ وأيُّ مصالحةٍ تُصلِحُ حينَ يكونُ الماضي حاضرًا فيكلِّ حجرٍ ووجهٍ؟ إنَّ البحثَ عن نقطةِ التقاءٍ لا يكونُ في الخطاباتِ الجوفاء، بل في استنطاقِالمشترك، ذلكَ الذي يسبقُ الصراعَ ويعلو عليه. كما جعلَ مانديلا من الرياضةِ وسيطًا لإعادةِ تعريفِالوطنِ، يمكنُ للسوريينَ أن يتعلموا من هذا الدرسِ لا باستنساخه، بل بالبحثِ والتنقيبِ في ذاكرتهمالجمعيةِ عن رمزٍ ثقافيٍّ مشتركٍ، فنٍّ شعبيٍّ، مهرجانٍ للطبخِ السوريِّ المتنوعِ، حكايا الجداتِالمتوارثةِ التي تلتقي حولَها الأطيافُ المتناحرةُ. إنَّ هذا ما يجعلُ الاختلافَ نقطةَ انطلاقٍ نحوَالتعارفِ والتقاربِ، وجسورًا لإعادةِ تعريفِ الانتماءِ، بعيدًا عن محاولاتِ القسرِ أو الإنكارِ. فالمصالحةُ، في جوهرِها، هي بالقدرةِ على التذكّرِ دونَ أن يتحولَ الماضي إلى جدارٍ يفصلُالحاضرَ عن احتمالاتِ الغد.

في جوهانسبيرغ، المدينة المثقلةِ بإرثِ التفرقةِ والصراعِ، فازَ فريقُ سبرينغبوكس ببطولةِ كأسِ العالمِبقيادةِ مدرِّبِه فرانسوا بينار (مات ديمون)، الذي أضفى توازنًا ضروريًا لتغيراتِ الحدثِ خصوصًافي المشاهدِ التي تجمعهُ بمانديلا، وأصبحَ بينار هو الجسرَ بين الماضي العنصريِّ والواقعِ الجديدِ. لحظةٌ تتحدّى التاريخَ وتنقضُّ كلَّ التوقعاتِ. ما يميزُ Invictus سعيه العميقَ لتناولِ مسألةٍ سياسيةٍغايةٍ في الحساسيةِ: هل تُبنى الأوطانُ على أنقاضِ الماضي أم على أنقاضِ الحاضرِ؟ كيف يُمكنُللمرءِ أن يطوي صفحةً تاريخيةً مليئةً بالدمِ والظلمِ دونَ أن يُفسحَ المجالَ للانتقامِ أن يعيثَ فسادًافي أركانِ الروحِ الوطنيةِ؟ السيناريو يتطرَّقُ إلى هذه المعضلةِ عبرَ شخصيةِ مانديلا، فالفيلمُ لم يقفْعند حدودِ الإنجازِ الرياضيِّ، بل يغوصُ في تعقيداتِ المصالحةِ العرقيةِ، كاشفًا أنَّ السلامَ لايتحققُ بقرارٍ سياسيٍّ فوقيٍّ، بل هو مسارٌ طويلٌ محفوفٌ بالترددِ والمقاومةِ، مؤكدًا أنَّ آثارَ الجراحِ لاتمحى بالتجاهلِ، ولا تُبنى الأوطانُ على النسيانِ. ورغم ضخامةِ المظالمِ التي عاناها الشعبُالأسودُ، اختارَ مانديلا، بحكمةٍ استثنائيةٍ، مصالحةَ الجروحِ لا بالحقدِ والغلِّ والوقوفِ على أطلالِالماضي؛ وإنما اختارَ طريقًا شاقًّا في إرساءِ مصالحةٍ تجمعُ بينَ ضحايا الأبارتايدِ “وجُناةِالنظامِ.

يُجسّد الفيلمُ هذه الفكرةَ من خلالِ مشهدٍ دالٍّ على عمقِ التحدي، حين يُعيدُ مانديلا تشكيلَ جهازِحمايتهِ، مزاوجًا بين حراسهِ من السودِ وأفرادٍ من أجهزةِ النظامِ العنصريِّ السابقِ. في هذاالمشهد، يلتقي الضحايا والجناة في مساحةٍ واحدةٍ، ليس كمتواجهين في ساحةِ حربٍ، بل كرجالٍمجبرين على التعايشِ، رغمَ ذاكرةٍ مثقلةٍ بالعداوةِ والخوفِ. هنا، لا تُطرحُ المصالحةُ كفعلِ تسامحٍخالٍ من التكلفةِ، بل كمسارٍ يتطلبُ شجاعةَ الاعترافِ بالماضي دونَ البقاءِ أسرى له.

في الوقتِ ذاته، لا يغفلُ الفيلمُ عن طبيعةِ التحدياتِ الكبرى التي كانت تواجهُ نيلسون مانديلا، فهولم يكن يتعاملُ مع أطرافٍ متساويةٍ في موقفهم النفسيِّ والاجتماعيِّ. الفصلُ العنصريُّ، بماتمخَّضَ عنهُ من جروحٍ عميقةٍ في النفسِ الجماعيةِ، خلقَ مسافةً شاسعةً بين الفئاتِ الاجتماعيةِ. السيناريو يُظهرُ بصدقٍ كيفيةَ تأثيرِ تلكَ الجراحِ النفسيةِ على تصوراتِ الأفرادِ من كلا الجانبينِ،السودِ والبيضِ، ولذلك لم تكن المصالحةُ في جوهرِها قرارًا على مستوى القيادةِ، بل محكًّا حقيقيًّالعلاجِ الجراحِ النفسيّة التي تركها النظامُ العنصريُّ. حيثُ يُعبِّرُ Invictus عن رؤيةٍ خَلّاقةٍ لضرورةِإعادةِ تشكيلِ الوعي الجمعيِّ داخلَ المجتمعِ. أبرزُ معالمِ هذا البناءِ الاجتماعيِّ كانت قدرتهم علىتجاوزِ ذاكرةِ المعاناةِ الجماعيةِ دونَ طمسِ الحقائقِ، فالمصالحةُ بحاجةٍ إلى تأكيدِ العدالةِ دونَالانزلاقِ إلى فخِّ الانتقامِ الذي سيؤدي إلى تدميرِ كلِّ ما أُنجزَ. وهذا ما نجحَ فيه مانديلا بقدرتهِالفائقةِ على طرحِ سياسةٍ اجتماعيّة تعطي للأمةِ فرصةً جديدةً لبناءِ هويتها بعيدًا عن موروثاتِالماضي القاتمةِ.

نجحَ كلينت إيستوود في رسمِ ملامحِ نيلسون مانديلا كرجلِ دولةٍ استثنائيٍّ يدركُ ببصيرتِه الثاقبةِأن التعايشَ بين الفرقاء لا يعني التسامحَ الأعمى أو الغفرانَ السهل، بل الإقرارَ بالعدالةِ الانتقاليّةِالتي تسمحُ لكلِّ طرفٍ أن يروي مظلومياتهِ، ويكشفَ عن جراحهِ في مسعىً لبناءِ تفاهمٍ مشتركٍيعكسُ التسامحَ دونَ الإغفالِ عن الحقيقةِ. لم يكن الهدفُ أن تنسى الأمةُ جراحَها، بل أن تجدَالمسارَ الصحيحَ للشفاءِ، الذي يبدأُ من قولِ الحقيقة ومواجهةِ الألمِ

تستلزمُ المصالحةُ السوريّةُ، في ظلِّ جراحٍ عميقةٍ وذاكرةٍ مثقلةٍ، أن تكونَ عمليةً شُموليّةً، ضرورةًحتميّةً تفرضُ على جميعِ الأطرافِ دونَ استثناءٍ مواجهةَ تاريخٍ ملوّثٍ بدماءِ الأبرياءِ. إنّها مسؤوليةٌتتطلّبُ تطهيرَ هذا التاريخِ بكلماتٍ صادقةٍ وأفعالٍ واضحةٍ، فإعادةُ بناءِ الوطنِ لا تقتصرُ على تجديدِبنيتهِ الماديّةِ، بل تتطلّبُ إعادةَ بناءِ الروحِ الجماعيّةِ. يجبُ أن تُتاحَ لكلِّ فردٍ، بغضِّ النظرِ عن طائفتهِأو فئتهِ، الفرصةَ الحقيقيّةَ للتعبيرِ عن آلامهِ وطرحِ همومهِ دونَ خوفٍ من التهميش أو الإقصاء.

سوريا اليوم بحاجةٍ ماسّة إلىذهنية مانديلا، بحاجةٍ إلى من ينهضُ من بين الركام والحطامليحملَ رؤيته الخلّاقة، التي تدمج بين الوعي والحكمة في إدارة الألم الجماعي. ليس بالضرورة أنيكون هذاالمانديلاشخصًا واحدًا، بل قد يكون مجموعة من الأفراد الذين، من خلال مبادراتهمالمبتكرة والهادفة، يسهمون في إعادة بناء الثقة المفقودة بين أبناء الوطن، ويسعون جاهدين لترسيخقيم التسامح والمصالحة.

حقَّقَ فيلمُ Invictus إنجازَه الأكبرَ كدرسٍ سينمائيٍّ متقنٍ عن القيادةِ، والإصرارِ، والتسامحِ، مقدَّمًابرؤيةٍ بصريّةٍ محكمة، وأداءٍ استثنائيٍّ، وذكاءٍ سرديٍّ جعلَ هذا العملَ من الشاشةِ نافذةً لفهمِالتاريخِ بعمقٍ وذكاءٍ، تارِكًا أثرَه في الذاكرةِ الجمعيةِ كدعوةٍ مفتوحة لفهمِ قدراتِ الإنسانِ على تجاوزِالألمِ وبناءِ وطنٍ مشتركٍ رغمَ الانقساماتِ. هذا الطرحُ السينمائيُّ بمثابةِ إشارةٍ يتردَّدُ صداها فيواقعِنا السوريِّ، حيثُ يتطلَّبُ الأمرُ شجاعةً استثنائيةً من كلِّ فردٍ في هذه الأمةِ لتجاوزِ الماضيوالتطلُّعِ نحو المستقبلِ، نحو فضاءٍ إنسانيٍّ يتسعُ للجميعِ.

بقلم   نهى سويد، نشر الموضوع في تليفزيون سوريا

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى