أدب

الهرُّ العائدُ

قصة قصيرة بقلم: د. إيمان بقاعي

في قرية بعيدةٍ بعيدةٍ بعيدةٍ عن المدينةِ، كان يعيش ولدٌ متعجرفٌ، يملك ثقةً كاذبةً كبيرةً بنفسِهِ،  اسمُه (سليم). وكان (سليم) يدّعي أنه يستطيع القيام بأي عمل مهما صعبَ، ويعرف كل شيء، ويدس أنفه في كلِّ الأمورِ طارحًا حلولًا لها وطرائق تنفيذٍ.

في أحد الأيام، نادته جارتُه العجوزُ طالبةً مساعدَتَه:

_ أيها العزيزُ (سليم)، أعرفُ أنكَ تعرفُ كلَّ شيء، وتستطيع القيام بكلِّ الأعمالِ مهما صعُبَتْ؛ ساعدني في حلِّ مشكلتي الصَّعبةِ، بل العَوِيصةِ.

تحمَّسَ (سليم) ورفعَ رأسَه عاليًا، ثم جلس منفوخَ الصَّدرِ يسألها بهدوء:

-أية مشكلةٍ تواجهُك أيتُها الجدَّة؟

الجدَّة العجوزُ جلست على كرسيٍّ خشبيٍّ قرب شجرةِ البرتقال الوحيدةِ في حديقةِ منزلها القديم، وأسندَتْ ظهرَها إلى جذعِها القويِّ، وشكَتْ بحُرقة وهي تشيرُ إلى هرٍّ برتقاليٍّ ضخمٍ مغمض العينينِ يتمددُ على العشبِ تحت أشعةِ الشّمسِ:

-غادرَني، يا بُنَيّ، عيشي الهنيءُ بسبب هذا الهرِّ اللَّعين. وقبلَ أن تسألَني التّفاصيلَ، سأشرحُ لك: إنَّه يلعق قشدةَ الحليبِ ولو كانَت الطّنجرةُ مغطّاةً وفي أعلى رفٍّ في المطبخِ، ويقلبُ جرَّةَ السَّمْنِ، ويحاولُ اصطيادَ السَّمَكِ من الحوض، وينجحُ دائمًا، ويجلبُ الفئرانَ من البيوتِ المهجورةِ إلى حديقتي، ويأكلها تاركًا أذنابَها على العشبِ. ومع ذلك، يا بني، أتحملُه. إلا أنه، منذ أكثر من شهرٍ، بدأَ يصطادُ  صيصانَ جاراتي المُحِبَّاتِ الغالياتِ، ما أدى إلى نزاعاتٍ متواصلةٍ بيني وبينهنَّ.

فكرَ (سليم) لحظاتٍ قصيرة، ثم ابتسمَ قائلًا  بكِبْرٍ وتيهٍ وفخرٍ وعظَمةٍ وصَلَت إلى حدِّ الزَّهْو المستخِفِّ بأعتى الصعوباتِ:

-الأمرُ بسيطٌ بقدر ما هو معقَّدٌ.

وفكَّر، ثم قالَ بكلماتٍ متقطِّعةٍ:

-بسيطٌ لأنه موضوعُ هِرٍّ.

وعلا صوتُهُ مستنكرًا:

-ومعقَّدٌ، لأنني…

وضربَ راحةَ يدهِ على جبينِهِ بمرارة:

-معقَّدٌ لأنني أفكرُ إلى أيِّ مستوى وصلَ إليه (سليم). أتتصورين، يا جدةُ، أنني أُطلَبُ لحلِّ موضوعِ  هرٍّ؟

وقبلَ أن تعتذرَ من إضاعةِ وقتِهِ الثَّمينِ، قالَ بارمًا شفته السفلى كلماتٍ متقطِّعَةً:

-أخشى، أيتها الجدة، ألا يكون الموضوعُ برُمَّتِهِ يستحق تدخُّلي أنا شخصيًّا.

وأدركَتِ الجدة أن (سليمًا) عنى بقولِهِ هذا إنَّه أكبر بكثير من أن يتدخل في موضوع هرٍّ، لكنها رجَتْه ثانيةً بوجه مليءٍ بالأسى، وكادت تجهشُ بالبكاءِ، وهي تُقسِمُ أنه موضوعُ حياةٍ أو موتٍ، فانصاعَ متبرِّعًا بحلِّ مشكلتِها:

– حسنًا، أسرجي الحصانَ وأعطني كيسًا قُماشيًّا كبيرًا سميكًا وربطةً قويَّةً.

وتوجَّهَ إلى الهرِّ ، وحملَهُ ببراعةٍ من رقبته، ووضعَهُ في الكيس، وقال بغطرسة:

– لن تري هذا الهرَّ بعد الآن!

وقفز على صهوةِ الحصانِ، ففرحَتِ المرأةُ وقالت:

-الحمد لله، الحمدُ للهِ. كمْ أشكرُكَ يا بطلَ الأبطالِ. سأذبحُ دجاجةً سمينَةً وأسلقُها إلى حين عودتِك لأعدَّ لك طعامًا لذيذًا.

كان (سليم) يحب الطَّعامَ، خاصة طعام العجائز اللَّواتي يتقنَّ الطَّهو، فقال لها:

– مسافة الطَّريقِ.

توغَّل (سليم) بعيدًا في الغابةِ، ثم توقَّف ونظرَ حوله، وفكَّر أن المكان- بأشجارِهِ الكثيفةِ- مناسب للتَّخلص من الهرِّ الذي حاولَ عبثًا مغادرةَ الكيسِ طوالَ الطريقِ.

حَلَّ الكيسَ، وأخرج الهرَّ، ثم رماهُ بعيدًا مستخدمًا عضلاتِهِ القويةَ، فقفزَ البرتقاليُّ السمينُ عدة قفزاتٍ فزعًا، ثم وثبَ فجأة إلى ظهرِ الحصانِ الذي جَفَلَ بدورِهِ ورفع  قائمتيه الأماميتين، وانطلق يعدو بأقصى سرعةٍ.

حدث ذلك كلُّه قُبَيْل غروبِ الشَّمسِ.  ورأى معظمُ سكَّانِ القريةِ كيف عادَ الحِصَان وعلى ظهره فارسٌ غيرُ عاديٍّ.

نعم، لقد  وقف الحصانُ عند بابِ بيتِ صاحبتِهِ؛ فنَطَّ الهرُّ إلى الفناءِ، ثم سقط عند قدَمَيِّ العجوز يلهث رُعبًا وجوعًا وتعبًا.

في تلكَ اللحظاتِ، سمعَ كلُّ أهل القريةِ سيلَ كلماتِ التَّوبيخِ التي شتمَتْ بها العجوزُ الشَّابَّ الغبيَّ، لكنَّهم تفادوا الاقترابَ من منزلها ريثما تهدأ. واقتربوا بعدَ أن أخبرتِ الجدةُ (ماجدة)- التي تسللَّتْ على رؤوس أصابعِ قدميها نحو بوابةِ حديقتِها- الجميعَ أنها رأتها بأُمِّ عينِها تقدِّمُ الدجاجَةَ المسلوقَةَ ساخنةً إلى الهرِّ، وتخاطبُهُ:

-كُلْ، كُلْ. لقد سلقْتُ هذه الدَّجاجة للفارسِ العائدِ، وهي مِنْ حقِّكَ!

16\4\2025

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى