

الفنانة المصرية الأصيلة فاطمة علي سالم، نحاتة ومثقفة مميزة. اكتشفتها في أحد رحلاتي إلى العاصمة الثانية الجميلة لمصر الحبيبة، الإسكندرية.
دار حوار بسيط بين كل منا، فجاءت بسؤالها: كيف عرفت أني فنانة مثقفة؟
سؤال يطرح رغبة في: كيف يقرأك الآخر؟
أولاً، يا فنانة، هي خبرات أسفار طويلة حول العالم، كيف تنظر للشخص دون كلام لتفهمه؟ خبرات أسفار في بلاد العالم، التي تفاجأ أن لك بها أصدقاء أكثر من وطنك الذي وُلدت فيه، أو حتى الذي عشت على أرضه، ورغم أنهم لم يتحدثوا معك بأي لغة غير القلب والعين.
ثانيًا، هي قراءة لما تحمله جمجمة الرأس وحركة الجسد الناطقة بالحرية لدى الشخص المقابل.
ثالثًا، والأهم، هي القراءة في إبداع الإنسان، فكره، عقله، المبدع الذي يسكن عمله والموجود أمام حدقة العين. فرغم سوء العرض، ووجود حواجز حول التمثال أو الأعمال المعروضة في تلك المناسبة –
فهي كانت مناسبة تخريج ابن أحد الأثرياء، وليس معرضًا بالمعنى المفهوم –
التي ظن ذلك المنظم الساذج أنه يوفر أجمل طريقة عرض، فانتفخ وشاخ!
رغم تلك الحواجز التي تعوق اللف حول التمثال والدوران في المكان،
إلا أن حدقة العين بدأت دورانها عشقًا في تلك الأعمال الموضوعة على قواعدها.
بدأت أتأمل حديث الأحجار، ثم صمتها، ثم القطع والتبسيط في شكل الحجر الضخم.
أتأمل في مساحة الرؤيا وجماليات تُحاك بإزميل الفنانة، وهي تضع بحنان واحتضان اللمسات الأولى حتى الأخيرة على الحجر.
طريقة التنعيم والتنغيم، وكأنها تعزف. رغم قوة الخامة وشراسة الحجر، لكنها متعة البحث في الشقاء، سعادة الخلق من العدم، أي خلق حالة إبداعية ضد الجمود والصلابة، إبداعية حركة الثابت والمتحرك، حركة البناء والانكسار، التجريد والتلخيص المبني على مفهوم صعب، وأداء شبه مستحيل على حجر صلب الاشتغال عليه.
لكن، كم من الإصرار والتحدي والإرادة تحرك أفعال الفنانة صغيرة الحجم، ولكنها مصارعة قوية، تُصارع بفكرها الجبال الهرمية، حركات القطع، ومن ثم الليونة، ثم القوة والتوازن.
فأعمال الفنانة فاطمة علي سالم تلمحها قبل أن تقترب منها، تلمح أعمالها من القراءة
في حدقة عينها، حركة الدائرة المركزية في عصب العين وهي تلفّ المكان.
تلمح كل ذلك في حركة الجسد الثائرة.
تشعر أنها فنانة تقاوم الظلام وتتحدى الصمت والفراغ وسوق العمل المتوقف عن اقتناء النحت ومساعدة النحاتين. كل ذلك تحديات مع فساد الرؤيا لدى المبدعين أنفسهم.
لكن أعمالها تجيب: لا يهم كل التحدي من أجل الإبداع، القفز تجاه الصدق، الفن في مواجهة الظلم.
ترى في أعمالها، في ثقافتها المتحركة داخل الحياة، هذا التناغم التكعيبي الجميل،
فتشعر، كمتلقٍ، أنك أمام نحاتة كبيرة. ليست هي كشخص كذلك، بل عملها، الذي يربط بين التكعيب والرمزية التجريدية، تتعامل مع الكتلة وكأنها تربي الأحجار كأبنائها.
تضع أسسًا وقوانين للشكل، وتمارس ضرابات الإزميل بكل عنفوان وقوة، ثم تعود وتحضن العين في دائرة العين، تُلاطفها بحنان لا يجف، وثقافة لا تبطئ، وتبدأ وتبدأ في إضافة لمسات التنعيم والتهذيب، لتضعنا أمام رواية إبداعية في منتهى الرقة والصلابة.
إنها تخلق وتحلق بنا في معادلة صعبة جدًا، —— في فضاء التكعيب ——
لا أعرف هل تدرك الفنانة، عن وعي، أنها تجرّ المتلقي إلى ملعب التكعيب؟ أم أنها حالة لا شعورية في مسلسل الصراع مع الحجر، الصراع مع الصلب لتحويله إلى مرآة جمالية؟
في تلك المساحة، عزيزي المتلقي، سيدتي، تكتشف خصوصية الفنانة، التي لم تدرس فنونًا جميلة، لكنها تتفوق بمراحل على كثير من المعارض والأعمال التي شاهدتها لأساتذة ومدرسين في النحت، الذين ينظرون بالمعرفة طول الوقت، وهي معرفة جوفاء، خالية من الخصوصية، تلك الخصوصية التي تتمتع بها الفنانة المبدعة فاطمة علي سالم، الحالمة بالمشاركات الدولية، وسيمبوزيوم النحت بأسوان، وهذا أدنى حقوقها، نظرًا لتميزها.
فهي ليست من أصحاب وأرباب الشلل التشكيلية التي تسيطر على الحركة، لكنها ابنة وفنانة عصامية، اشتدّت سواعدها من بناء شخصيتها القوية. فنانة شابة تستحق التكريم والكتابة عنها وعن إبداعها.
متحف دارنا – عبد الرازق عكاشة