أدبإعلامشخصيات

أشرف أبو اليزيد … آخر الموسوعات

"ملامح" يعدها ويكتبها: هاني نديم

أشرف أبو اليزيد في أوزبكستان

حصيفٌ هو العمر وعبقريةٌ هي الحياة، فما إن تبدأ سيرك في عتمتها حتى تنصب لك فخاخها بيدٍ وترفع قناديلها بأخرى، وما عليك سوى أن تعثر وتنهض حتى تتبين الرشد من الغي والعتم من الضيّ؛ أسوق هذه المقدمة تعلةً لأقول أن أشرف أبو اليزيد كان أحد قناديلي الأولى التي أقالت عثرتي إلى أن وقفت، ونوّرت خطوتي حتى بلغت.

الحكّاء المصري أشرف أبو اليزيد، كما يحب أن أسميه، كان أول google أعرفه! شاعرٌ له خمسة دواوين وروائي صدرت له ثلاث روايات، وضع كتباً عدة في أدب الطفل وله مؤلفات في النقد التشكيلي، رسام ومترجم ومصمم جرافيك وصحافي حد اللعنة. كما ويعتبر أبواليزيد من أهم الرحّالة العرب المعاصرين ومن كتبوا في أدب الرحلة، وفوق هذا كله صانع نكتة في منتهى الذكاء وصاحب “قفشات” تضحك لها السماء.

له برنامج تلفزيوني بعنوان “الآخر” يعدّه ويقدمه ويخرجه ويلتقي فيه بشخصيات بارزة من الثقافات غير العربية، وأنجز في موسميه الماضيين 60 حلقة. أصدر أكثر من 20 كتابا، وشارك بفصول في مؤلفات كثيرة؛ ترجمت أعماله للإنكليزية والإيطالية والإسبانية والفارسية والتركية والكورية والروسية والسويدية، يرأس تحرير جريدة “آسيا إن” وماجازين إن اللتان تصدران عن جمعية الصحفيين الآسيويين كما أنه أحد أعمدة مجلة العربي الكويتية العريقة، و…
كيف أقدمه وهو الكثير؟!، يقول:

“ربما بحثتُ عن الإجابة قبل أن تسألني، ذلك البحث الهاجس بأن التعريف مديح للأنا، ولكن بين التعريفات ما يمنحها الآخرون لك، وفيها ما تقرره أنت ذاتك.  لن تستطيع أن تصف كتابة بالشعر وهي ليست كذلك، ولا أن تسمي الشخص شاعرًا وهو خلاف لهذه الحقيقة. أحب أن أسمى حَكَّاءً، وهذا الحكي فيه من الشعر والقص والتاريخ. أكتفي بما أريد أن أواصله، الشاعر والروائي، والباقي يأتي في الهامش، يروي المتون وترويه؛ من الرَّي والرواية. أما الرسم فحكاية عشق مؤجل، أحلم أن يأتي يوم، أو أيام وفصول، لا أفيق إلا كي أتجه إلى الفرشاة والألوان. اليوم أرسم لزوجتي وأطفالي، وغدا أرسم للعالم. ولا أعتبر نفسي مترجما على الإطلاق، إنما أنقل تجارب أحبها أريدها أن تشيع، ولذلك فما قدمته في هذا الشأن معدود، لكنه يعكس اهتمامي، مثل ترجمة سيرة سلفادور دالي، عشقا للفن والأدب اللذين تضمهما تلك السيرة الفريدة”.

هاني نديم، الشاعر والناثر والإعلامي، والرحالة

ألتقيت أشرف في “مسقط”  سلطنة عمان لأول مرة، كان جاري بالصدفة، وكنت أراه يتنقل من بيته لعمله كل يوم وثمة ما يقول لي: أنه مثقل بالسطور والقراءات، ومشغولٌ بالهمّ المعرفي، هكذا يمرّ دون ادّعاء ولا مبالغة نحو منجزه الإبداعي، يضحك كثيراً ويلقي التحايا على الجميع، ودون أن ينظر إليك يحفظ طولك ومقاس حذائك ولون قميصك ونوع عطرك!.  يقول أشرف:

“الإنسان أوانٍ مستطرقة، لا تظن أنك تسكب في الفراغ عواطفك، سواء كتبت عن الطيور المغردة، أو الأرواح المتمردة، أو الديكتاتوريات المعربدة. كلٌّ يفضي للآخر، ما تصمت عنه هنا، تجده يفضحك هناك. لا يحيرني الكم، وإنما الكيف، هناك من عرفوا بدرّة وحيدة، وهناك من كتبوا أطنانا رصفوا بحبرها دروب التاريخ وسارت فوقها عرباته لا تدري بها.  بدون بلاغة مفرطة… أتخذ من أصحاب الندرة مثلا أعلى، ولهذا لا أغار من الغزيرين، لأنني قد أبحث عن لؤلؤة في طن محارات فلا أجد”.

كل هذا ولا يغار أبواليزيد من الغزيرين! حسنٌ سأتجاوز هذه النقطة على مضض وأدقّ على الخشب، لأسأله عن أبطاله وأيقوناته، من شكّل أشرف ووعيه المعرفي والنفسي، فيجيب:

“كان لنا أبطال في كل مراحل العمر، في الصبا كان الرسامون جميعهم، بدءاً من رسامي الشرائط المصورة إلى رسامي البورتريهات ولوحات الاستشراق، بما لهم من تلك اللغة اللونية الآسرة الأخاذة، وكان هناك أيضا المغامرون، سواء كان جيمس بوند، أم أبطال ألفرد هيتشكوك وأجاثا كريستي، وسنكبر لنعترف بأننا أسرى الحروف، سواء كانت لغة أدب توفيق الحكيم ويحيى حقي ونجيب محفوظ أو تحليلات وسرديات محمد حسنين هيكل وثروت عكاشة ومحيي الدين اللباد، أو أشعار أمل دنقل وصلاح عبد الصبور. وأصل اليوم إلى لغة الشباب في تعليقاتهم الساحرة والساخرة، من أصحاب الأعمدة، ولا أسميهم لأنهم مرة في العالي، ومرات يغطسون إلى قاع بلا قرار. لكن رواية واحدة أو ديوانا وحيدًا أو كتابا واحدا ـ في الاقتصاد أو العلوم أو الفنون ـ يمكن اليوم  أن يشكل زادي الأكبر”.

كتاب طريق الحرير الذي وضعه أبو اليزيد موثقاً به 374 مدينة، يشرح شغف هذا الرجل بالمعرفة، ويفسر خصوصيته الشديدة وحركته الدؤوبة لإمساك كل شيء وإعادة صياغته، حتى الأماكن يعيد أبواليزيد تصديرها لنا جديدة مدهشة نكاد لا نعرفها، سألته عن علاقته بالمكان وماذا يريد أن يقول من خلاله، وماذا عن “بنها” مسقط رأسه ومدينته المصرية الجميلة، يقول:

“لي ألف بيت وبيت، ليس من الشِّعر، ولكنها بيوت من شَعر وحجر وزجاج وخشب. بيوت تشعل وقود الحنين كلما مرت صورها.
نحن نترك بعضا من أرواحنا في كل مكان تطأه القدم، ويطرقه القلب، لذلك تعيش الأماكن فينا، ولمسافر مثلي آلف الأماكن الرحبة بسرعة، وأشعر أنني عائد لها ثانية، ولا انفصام بين المكان وساكنيه، فلي أهل في كل مدينة زرتها، بسطاء وأكابر، تمسح ابتسامتهم في اللقاء الثاني المسافات الضوئية بين آخر لقاء ضمنا، لهذا تُعمِّر صداقاتي.

أما بنها فكانت تمثل اختزال العالم، فيها قبس من كل شيء بديع؛ النيل واللون الأخضر وشريط القطارات والجسور العتيقة وزمن البراءة، لكن السفر جعلني أقضي في كوريا الجنوبية أياما أكثر مما أقضيها في بنها، خاصة بعد سكناي القاهرة منذ أكثر من عقدٍ.  لكنها تعيش في الشعر. وخاصة أن بها عائلتي الكبيرة”.


من ناحيتي، ما زال يؤرقني هاجس الكتابة للطفل في هذا العصر التقني والبصري، هل ما زال الكتاب مؤثرا في هذا الجيل، وكيف بدأ أبواليزيد علاقته بأدب الطفل، يشرح ذلك بقوله:

“في صباي، كنت أمر على طباَّع على الآلة الكاتبة، ينضد لي قصصي على صفحات، أجمعها بدبوس معا، لأرسم في فراغات النصوص، وتلك كانت مؤلفاتي الأولى، وكان ذلك يحدث في الوقت الذي أحكي فيه لأشقائي الصغار قصصا لشخصيات أبتكرها، لا زلت أذكر منها الست كلبظ، هذه المرأة السمينة نصف الشريرة، هذه هي نواة مؤلف قصص الأطفال، لكنني تحولت إلى عمل مشروعات محددة، كأن أكتب قصائد لا تستخف بعقول قرائها الصغار، أستلهمها من الحياة اليومية، كأن أتحدث عن الطيور التي تؤوب بعد نوبات الهجرة لأطمئن ابنتي بعودة صديقتها التي غادرت الصف الدراسي، فأدب الأطفال جزء أصيل من تربية النشء على العلم والمعرفة، والمغامرة جزء أصيل، كما في مغامرات أكتبها منذ نحو 4 سنوات لماجد على طريق الحرير يكتشف حضارات الأمم وتاريخها، ويقدمها للناشئة من القراء العرب، ليعرفوا أنهم ليسوا وحيدين في هذا العالم، وأن الحوار مع الآخر به متعة لا توصف، وأن لدى الآخرين ما يفخرون به كذلك مثلنا، رغم اختلافات لون البشرة وجنسية المرء وعرقه ودينه.”

أخيراً، أقرّ وأعترف أنا المدعو هاني نديم، الذي عمل في أروقة الثقافة عمراً مديداً وغير سعيد، أن الكثير ممن ندعوهم مثقفين عظام ومفكرين كبار، لا تتجاوز ثقافتهم عناوين الصحف ولا يقرأون ما بعد واو العطف! وأننا لنصوّب القادم من المعارف، لا بد لنا أن نعرف أن المثقفين الحقيقيين في غالب أمرهم، لا يحبون “البهرجة” والبروبغاندا، ولا يخطون بأقدامهم نحو الأضواء إذ أنهم في شغل شاغل بين أرواقهم وبحوثهم؛ أشرف أبو اليزيد واحد منهم، مثقف عربي حقيقي، علينا التنبّه كثيراً لمنتجه وإبداعه.

2014-06-18 في الوسط اليوم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى