
“تونس أيا خضرا.. يا حارقة الأكباد.. غزلانك البيضا تصعب على الصياد.. غزلان في المرسى ولا في حلق الواد”، هكذا ترنّم الجميل “فريد الأطرش” بصوته الشجي بكلمات سلطان الكلمات المصري التونسي الأصل “محمود بيرم التونسي” بضاحية تونس الشمالية من المرسى إلى حلق الوادي مرورًا بسيدي بوسعيد، وقرطاج، وصلامبو، وخير الدين، والكرم.. إلى أن نصل إلى حلق الوادي، وكلها من أجمل بقاع تونس العاصمة..
ـ لكن حلق الوادي، تلك المنطقة العريقة، تتفرد بتجسيدها حالة تونسية رائعة من التعايش بين الملل والنحل والأعراق، ففيها يعيش أبناء تونس من العرب المسلمين واليهود، وجالية إيطالية أضفت روحًا إيطالية بنكهة تونسية على المكان، حيث تجد مطاعم الأسماك والبحريات التي تذكّرك بمدن جنوب إيطاليا الساحلية، وبالقرب من جامع سيدي الشريف.. تجد الكنيسة التي يخرج منها موكب السيدة العذراء “المادونا” الحميم المهيب، ميممًا وجهها القدسي صوب المتوسط في منتصف أغسطس “أوت”، يحفّ به أبناء حلق الوادي لا فرق بين مسيحي ومسلم ويهودي، فكلهم يمتزجون في كيان واحد يعكس روح السلام والتعايش التي تمثل عنوان المكان الفريد الذي يحمل مياه البحر اللازوردي إلى بحيرة تونس الجميلة.
ويمكنك رؤية جمال حلق الوادي في وجه نجمة السينما الجذابة تونسية المولد إيطالية الأصل “كلوديا كاردينالي”، ابنة العائلة الإيطالية التي استولى عليها سحر المكان فاختارته مكانًا للعيش والسكن، كما حدث للأديب والفيلسوف والمترجم اللبناني “أحمد فارس الشدياق” أصيل قرية “عشقوت” اللبنانية، الذي عشق حلق الوادي وعاش فيها في عهد المشير أحمد باشا باي حاكم تونس، وتولّى منصب وزير التربية هناك بعد أن استقدمه الوزير المصلح العظيم “خير الدين باشا التونسي” الذي أصبح فيما بعد الصدر الأعظم للدولة العثمانية.
وكان من الطبيعي أن ينظم “بيرم التونسي” تلك الأبيات التي تغنّى بها “فريد الأطرش”، إذ لا بد أن خصوصية المكان الجميل الذي يمتزج فيه الحزن والفرح، والشجن والجمال، والسعي وراء كسب الأرزاق.. قد دغدغت مشاعر الشاعر الكامنة.. ففي حلق الوادي وحصن “الكراكة” لفظ القائد الثائر “علي بن غذاهم” أنفاسه الأخيرة تحت وطأة الجلد، حيث كانت آخر فصول قصته الحزينة، وليس بعيدًا من الحصن الميناء الذي يشهد لحظات الشجن عند لقاء ووداع القادمين والمسافرين، يلاصقه ميناء الصيد الجميل، حيث يكدح الصيادون سعيًا وراء لقمة العيش.. وهذا الخليط المفعم بالمشاعر الإنسانية مع سحر المكان الذي يحمل لمسة المبدع الأعظم خالق الكون.. لم يكن سببًا في وقوع من ذكرناهم آنفًا في حب حلق الوادي وحدهم.. بل إن أغلب من يسكنون تلك المنطقة متيمون بها، وكثير منهم يعرفهم كاتب السطور بشكل شخصي، مما يؤكد ما ذهبنا إليه من ارتباط كل من مرّ بهذه المنطقة أو سكن فيها بها.

—
عشاق حلق الوادي والنسمات:
لعل إحدى أهم مناطق حلق الوادي وأكثر طرافة هي “القنال” الذي يحمل مياه المتوسط لتصب في بحيرة تونس، وتستطيع وأنت تتنزه على ضفاف تلك القناة الجميلة، تداعبك وتراوغك نسمات المتوسط، أن تلمح الجرار الفخارية المستخدمة في صيد “الأخطبوط – القرنيط”، وهواة الصيد بالصنانير، والمتنزهين فرادى أو جماعات في مرح صاخب.. ربما يقلق العشاق الذين يفضلون مناجاة بعضهم البعض في هدوء.
ومن يقع في حب حلق الوادي ممن لا يسكنونها، يغبطون سكان البنايات القائمة على ضفتي القنال على ديارهم التي تجمع بين سحر البحر وعمقه، ووداعة القنال وهدوئها ولمسات نسيمها، في مكان مثالي لسكنى فنان، فما بالك باثنين من الفنانين وعشاق حلق الوادي المخلصين: “سهام وصلاح مصدق”.
منذ أكثر من عقدين ونيف، عرفت الفنان الكبير الموهوب والصديق المخلص لأصدقائه وكل ما ينتمي إليه “صلاح مصدق”، الذي لا يكاد يغادر هو وحرمه الضاحية الشمالية، وخاصة منطقة سكنه على ضفاف القناة، إلا للعمل أو لدواعي السفر.. لذا كان تعبيرهم العملي عن عشق المكان وانتمائهم له من خلال إقامة مهرجان لتنشيط المكان والترويج له يحمل اسمه إحدى سمات المكان: “نسمات المتوسط”.
ولا بد من التنويه إلى أنه قبل انطلاق الدورة الرابعة للمهرجان، كان لنا موعد حميم في مؤتمر صحفي مع مؤسس المهرجان ومديره، ومن يعاونه في هذا العمل الدؤوب، وفي مقدمتهم الفنانة “سهام مصدق”، في لقاء حمل كل سمات حلق الوادي.. حيث انطلقنا من ميناء الصيد في حلق الوادي على متن مركب سياحي يحاكي سفن القراصنة إلى عرض البحر، حيث شرح مدير المهرجان، والقائمون عليه، وبعض المشاركين فيه، تفاصيل الدورة الجديدة (الرابعة).
الدقائق الأولى من يوم 30 يوليو – جويليه، تمثل اليوم الأول من مهرجان “نسمات المتوسط” ذو البرنامج الحافل لدورته الرابعة، والذي سننشره لكم، وهو مهرجان مجاني اجتهد مديره ومؤسسه الفنان “صلاح مصدق” مع حرمه الممثلة الكبيرة “سهام مصدق” على إقامة هذا المهرجان الخاص والمجاني بالجهود الذاتية، بهدف تنشيط المنطقة، وترويجها، وإحياء كل تفاصيلها الجميلة، والتعريف بمعالمها الهامة كالبوابة الإسبانية، وساحة النصر، وشاطئ حلق الوادي.
وقد ابتكر المهرجان تقليدًا جديدًا، وهو احتفالية ما قبل الافتتاح كتمهيد للمهرجان، والتي بدأت بالفعل بجولة بالقطار السياحي بين معالم حلق الوادي، ينشطها لاعب الماريونت المعروف “عياد معاقل”، و”آدم الجبالي”، والتي ستولي عناية خاصة بالصغار والنشء تعميقًا للانتماء إلى المكان بالنسبة لسكان المنطقة منهم، وتعريف ضيوف المهرجان بها.
ويُنتظر أن تكون الدورة الرابعة للمهرجان ناجحة كسابقاتها، بفضل جهود المخلصين “سهام وصلاح مصدق” وعشاق حلق الوادي، ومنهم كاتب السطور.