الأرض تهتز أسفل أصوات زئير الثائرين … ثورة المكنة (3/3)
بقلم الفنان التشكيلي والروائي عبد الرازق عكاشة، باريس

المكنة تفجر | ثورة المكن بين الدكتور الراحل عميد الافنجاردست في الإبداع السينمائي العربي د. مدكور ثاب وصائد النور في التشكيل العربي الدكتور مصطفى الفقي
————-
الأرض تهتز أسفل أصوات زئير الثائرين ..
العامة عابرون بأقدامهم العارية من الروح
المثقفون يسيرون بجوار أفكارهم،
والشعراء صوت الوجع.
الفنانون سكان ألوانهم،
والكتاب أولاد درب الخيال على رصيف الألم.
الولد ابن العذارء البكر النابض قلبها ..
والبنت نشيد الصبر في صدر أمها.
مشهد أول
مصر بين سنوات الكرامة والحلم
على ما يبدو أن الصراع الداخلي للمثقفين المصريين المؤسسين بطريقة وطنية واجتماعية سليمة زرع فيهم (أي المثقفين) تلك المرحلة الهامة في تاريخ مصر، بداية من ستينات القرن الماضي إلى منتصف السبعينات، لاسيما فترة ما سمي بالهزيمة الحربية في ٦٧، هذا التأسيس جعلهم أكثر اِلتصاقًا بالوطن، عكس ما رسمت القوى الاستعمارية الكبرى لجذبهم نحو التمرد، وخلق حالة عصيان ثقافي لدى الشعب على الزعيم.
المفاجأة كانت في النتيجة، إذ أن الشعب نتيجة لكل محاولات التدمير اِلتصق بعبدالناصر أكثر، رغبة في تحقيق الانتصار، ورفضًا للهزيمة. حتى المحبطين كان قرارهم: “مثل ما أدخلتنا للهزيمة عليك إخراجنا منها”، دون وعي وبعد نظر نحو فكرة أن اللعبة عالمية الصنع، وهذا ما جعل بعضهم مغمض العينين حتى الآن، وفي كل ذكرى للزعيم يخرجون (قفة) الندب والشطب والشتائم، مع أننا نشرح باستمرار أنها
كانت خدعة عالمية كبرى من أجل اتساع رقعة أراضي الكيان المحتل، وتمكين الاحتلال من شعب فلسطين العربي، والسيطرة على أرضه العربية، من أجل إكمال صناعتهم لكيان الوهم، ونشر السرطان في كل مكان.
الموضوع مدروس ومنظم وممنهج أصلا؛ ولكني أتحدث عن المثقفين المصريين الأكثر إيماناً بالوطن، وإحساسهم الواعي بأن هزيمة ١٩٦٧ هي هزيمة مدبرة لوقف نمو الوعي الثقافي والاجتماعي
الجبار لدى المثقفين المصريين.
ولا ينكر أحد حجم مصر الثقافي في الستينات إلا حاقد ومريض حقيقي
خاصة مع وجود وزير ثقافة مثل ثروت عكاشة
يجر قافلة التحدي، ثم الوزير عبدالقادر حاتم، في تلك المرحلة النابضة والناهضة في تاريخ الأمة.
نعم؛ كانت صدمة الزعيم ناصر كبيرة مثل الشعب مما دفع الرجل إلى رفض الاستسلام، ورفض المثقفون معه تجرع أقوى جرعة سموم، التي كانت الأكثر وجعا وألما بعد ١٩٤٨، والتي كانت النكسة الأكبر في تاريخ آلامه، فهزيمة
٤٨ هي التأسيس الأصلي
للكيان.
وأقف اليوم أمام ما جعل المثقفين يتمسكون بحلم الكرامة ورفض الهزيمة، لأمة كان حلمها هو التواجد على خارطة الإنسانية العالمية، ولكن مع الأسف تربص الأعداء لوأد التجربة بهزيمة مدبرة عسكريًا، كل ذلك لم يثني الشعب والمثقفين عن إكمال الحلم رغم قسوة المرحلة.
بدأ الجيش مرحلة حرب الاستنزاف، وثقافة الرفض والتمرد على، الهزيمة، هذه الثقافة التي دفعت المثقفين للتمسك بحلمهم، من خلال الفعل الموازي لأبطال حرب الاستنزاف على الجبهة.
نعم، كانت مرحلة خطيرة في السنيما والتشكيل والمسرح، وهنا أطرح السؤال الأول المهم:
– أين الباحثون، والمفكرون
والنقاد الحقيقون، من تاريخ ورصد وتحليل تلك المرحلة؟وخاصة (الرصد) كما فعل الباحثون وأصحاب الرسائل العلمية في أوروبا أثناء الحرب العالمية الأولى والثانية، والتي كانت صعبة جدا اجتماعياً، حينها كانت الصراعات الأدبية والتشكيلية موازية للصراعات الحربية مع وجود نقاد وباحثين.
لدي كل اليقين أن هذه الفترة كان بها كنز إبداعي لم يكتشف بعد، ولم يكتب عنه بعد.
———-
لوحة المكنة والتاريخ
——-
هل يتخيل أحدكم أن لوحة صادقة ضمن أهم معارض التشكيل المصري في العشر سنوات الأخيرة تفجر كل هذه الأسئلة؟
تخيلوا تأثير تلك اللوحة والنور المائل إلى ألوان تثير دهشتك وتهز وجدانك،
أما الظل الذي يشبه طين الأرض، فطين على طين
يتراص لتغطية النور ونشر العتمة.
النور هو الصرخة وسط الظلام، النور مصدره القلب.
من قلب الفنان دكتور مصطفى إلى قلب المتلقي.
المدهش في البداية يبدو أني تائه بين قوة الظلام وثورة النور، لكن الإبصار بيقين القلب هو طوق النجاة من سحر الغرق في سفر اللوحة اللا منتهي. ظننت أنها رسمت في نهاية الستينات في تلك الحقبة التي تحدثت عنها، لكن بمراجعة بنت الفنان الفنانة غادة الفقي، أكدت لي أن اللوحة أنتجت في بداية التسعينات؛ لكن تأسيس اسكتشات اللوحة، والذهاب والعودة والتردد في تنفيذ الفكرة، بدأ فعليا في تلك المرحلة الثرية من تاريخ مصر.
هنا أجد أنه إذا كان للوحة اسكتشات تأسيسية يجب أخراجها وطرحها في معرض خاص مع تلك اللوحة فقط، لنرى ونتعرف كيف كان يفكر ويخطط أحد الفنانين الكبار في تلك المرحلة.
،
—لوحة المكنة ترجعنا إلى ثورة المكن —
أمام تلك اللوحة كما ذكرت دارت الذكريات، بدأت الرحلة من عند (جودار) مفكر ومخرج السينما العربية د. مدكور ثابت، الصديق الأغلى والمؤثر في حياتي.
أمام تلك اللوحة تذكرت الفليم القصير ثورة المكن، ولعب المخرج الكبير بنفس مسافات الظل والنور، العتمة والتمرد عليها، وأنشر لكم اللوحة مع بعض لقطات صور الفليم، لنرى بعين اليقين أنها فعليا كانت حربا وصراعا.
حينها كان وجود المثقفين كصراع موازٍ للجندي على الجبهة في حرب الاستنزاف العظيمة. د. مدكور يحرك الكاميرا في صمت، دون تدخل تمثيلي من أي شخص، يرسم الصرخة مثل دكتور الفقي،
وأنا واثق أنهما لم يلتقيا؛ لكنها الإدارة، ثورة المثقف التي تلتقي كذلك مع كل حالات التمرد عند نجيب محفوظ، خاصة في مشهد عماد حمدي في نهاية الفليم على الكورنيش، وهو يصرخ داخليا، التي فسرها المحبطين بأنه يندب على الهزيمة، في حين أن محفوظ لعب بالنور كذلك وسط العتمة، ولم يندب الهزيمة بقدر ما كان يعبئ صدره بنور، بهواء، بيقين قادم من بعيد. لقد توقف عن التيه، والمخدارت، وبدأ اليقين بأن النور قادم.
شكرا للمرحوم الفنان أستاذ دكتور مصطفى الفقي، لقد فجرت دخلنا أقوى ثورة إبداعية لم تحدث لي كثيرا في المحترفات التشكيلية العربية.
باريس
الإنسان البسيط المختبئ خلف جماليات هذا الإبداع الجبار
عكاشة