جاليريشخصيات

الكنداكات واللون والنميمة البريئة في أعمال التشكيلي السوداني بكري بلال

بقلم الفنان والناقد كمال هاشم، السودان

التشكيلي السوداني بكري بلال

في تجربة الفنان التشكيلي السوداني بكري بلال تتجلى رؤية بصرية شديدة الخصوصية، تقيم توازنًا دقيقًا بين الجمال الصارخ والرمز الغائر، بين الحلم والذاكرة، وبين الإنسان كمجرد هيئة والإنسان كجوهر يتنفس من خلال اللون والخط. لا يمكن النظر إلى لوحات بكري بلال باعتبارها مشاهد تشكيلية فحسب، بل هي بمثابة قصائد صامتة تنبض بترددات روحية، وتفتح نوافذ على عوالم تتقاطع فيها الذات الفردية مع السرد الجمعي للحضارة السودانية، خاصة في تمثلاتها النوبية والكوشية.

أول مرة تقع عيني على عمل لبكري بلال كانت في مدخل قاعة المناسبات بفندق السلام روتانا، جنوبي مطار الخرطوم؛ كانت لوحة بديعة تبعث الدهشة وتستدعي الوقوف والتأمل. ومنذ تلك اللحظة، وقعت في عشق أعماله، وتعمدت زيارة الفندق بمناسبة وبغير مناسبة، فقط لأتأمل في ذلك العمل البهيّ. لم يمض وقت طويل حتى فوجئت مرة أخرى بإحدى لوحاته تزين قاعة بالقصر الجمهوري الجديد المطل على النيل الأزرق. بالطبع لم يكن من الممكن زيارة القصر بسبب أو بغير سبب لمطالعة تلك اللوحة عن قرب، لكنها كانت مفاجأة مبهجة أن تجد عملًا لبكري بلال ضمن درر أخرى لفنانين سودانيين مرموقين اختيرت أعمالهم لتكون جزءًا من هوية الدولة البصرية.

أما المفاجأة الكبرى، والسعيدة بحق، فكانت حين دخل بكري بلال، بطلته المهيبة، إلى عيادتي بمركز السودان للعيون، حاملاً إحدى روائعه كهدية عظيمة. لوحة أتيح لي أن أتأملها كل يوم، حتى أجبرتنا الحرب اللعينة على مغادرة الخرطوم في صيف 2023. كانت تلك اللوحة أشبه بصحبة روحية؛ كانت تُحدّثني كل صباح بلغة لا يسمعها إلا من يعرف جمال الصمت حين يتجسد في اللون.

تمنيت مرارًا زيارة مرسمه في منزله، لكن الفرصة لم تُتح لي إلا حين زرته معزّيًا في وفاة زوجته. وجدته في حزن عميق لفراقها، ولم يكن الوقت مناسبًا آنذاك لرؤية المرسم، لكنه كان كافيًا لأرى وجهه الذي يشبه أعماله: مشرقًا بالحزن، رائقًا بالحكمة، ومفعمًا بصمتٍ يعرف كيف يحكي.

أسعدني لاحقًا أن أعلم أن جذور أسرته تعود إلى قريتنا “إيماني”، الواقعة شمال مدينة دنقلا، في قلب منطقة النوبة التاريخية. وهي أسرة اهتمت بتعليم أبنائها في وقت لم يكن التعليم فيه من أولويات معظم الأسر. أحد إخوته أصبح طبيبًا مرموقًا في الطب النفسي، وقد تخرج بكري بلال نفسه في كلية الفنون الجميلة بالخرطوم، بعد أن سبقه إليها أحد إخوته، مما يدل على بيئة منزلية مشبعة بالإيمان بالعلم والفن معًا.

حين ننظر إلى لوحات بكري بلال، نرى مزيجًا من التكوينات والرموز التي لا تنتمي فقط إلى حاضر بصري معاصر، بل تمتد جذورها إلى أعماق الذاكرة النوبية والكوشية. عناوين أعماله تحمل أسماء مثل “أميرة كوشية”، “كنداكات”، “مروي”، وهي ليست تسميات عابرة، بل مفاتيح تفك شفرات العمل، وتدل على استدعاء للتاريخ لا بوصفه أثرًا، بل كنبض حي لا يزال يسري في أرواحنا.

في عمق هذا العالم البصري، ينجح بكري بلال في الجمع بين روح الأسطورة والواقعية السحرية. تخرج الوجوه من رحم اللون كأنها كائنات من حكايات خرافية، لكنها مألوفة، تقيم بيننا وتتشبث بتفاصيل الحياة اليومية. في كثير من لوحاته، يبدو كأنه يرسم جلسات “مؤانسة البنات” في الحوش السوداني، حيث تنساب الحكايات الصغيرة وتدور “النميمة البريئة” أو “القطيعة” كما تُسمّى في الدارجة السودانية، برشاقة ومرح وفضول، دون أن ينفصل عن الجلال الرمزي للعمل أو يخلّ باتزانه البصري. يتعامل مع تلك اللحظات الهامسة كمن يلتقط جزءًا من روح المجتمع، فيحيلها إلى مشهد بصري مكتنز بالدفء، والحميمية، والأنوثة الموشّاة بالسرّ.

الوجوه في أعماله لا تشبه أحدًا، لكنها تُشبه كل من مرّوا بنا. النساء في لوحاته يملكن هيبة الكنداكات، فيما الألوان تتوهج كما لو كانت طقوسًا روحية. ألوان كأصباغ “التفتة” التي تلون بها الجدات المفارش والاطباق المصنوعة من سعف النخيل. حتى الخط الأسود الكثيف الذي يطوّق الأشكال لا يبدو تقييدًا بصريًا، بل هو سلكٌ ناري يشد المعنى من شتاته، ويمنحه شكلًا وقوة.

ثمة طاقة خفية في أعمال بكري بلال، طاقة تستدعي المشاهِد لا ليرى، بل ليُبصر. وهذه هي قوة الفن حين يكون صادقًا: أن يعيد تشكيل علاقتنا بالعالم، أن يمنحنا ما يشبه الرؤية الثانية، تلك التي لا تحتاج إلى عيون بقدر ما تحتاج إلى قلب مفتوح.

كلما طالعت عملًا جديدًا له، أشعر أنني أقرأ جزءًا من سيرة لم تُكتب بعد، وأن هذا الفنان لا يرسم الأشكال فقط، بل يرسم الزمن وهو يمر من بين أيدينا، يرسم الحنين حين يصبح لونًا، والحزن حين يتجسد في ملامح امرأة تطل من خلف ستارة خيال.

إن تجربة بكري بلال، بكل ما تحمله من جمال، وعمق، ورمزية، ليست مجرد تجربة فنية، بل هي مساهمة حقيقية في صياغة الوجدان السوداني، وفي كتابة سير وحكايات لا تُقرأ إلا بالبصيرة.

كمال هاشم
بورتسودان. ٥ اغسطس ٢٠٢٥
Bakri Bilal

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى