أدبجاليريشخصيات

لمعة البحر المستحيلة

بقلم: أسامة كمال أبو زيد

أسامة كمال أبو زيد

يصحو بعد منتصف الليل. بعد أن تسكن نار أفكاره بيت القلب، تدفعه قدماه في جولة روحية إلى البحر ليتنسم رحيق الورود الطافية على الشاطئ، التي تلتقط ضوء النهار الأول، فتلمع على سطح الماء من جديد .. يظل بعدها هائمًا على أطيافها مع أحد أصدقائه حتى يرمي البحر بموجة أخرى، ويتسلل خيط النور من سنابل الشمس الوليدة…

…….

 حين تحدثت معه ، تركت له أحلامه ليعيد نسجها، ترتيبها، ومنحها الحياة، ومع حديثه اختفى العالم، وبدأت صفحة جديدة من صفحات التكوين، صفحة يعيد فيها ترتيب الحياة وكأن اللحظة لم تغادره بعد إلى الغياب، يتحدث وكأن غيمة عابرة حان وقت سقوط ولمعان قطرات مائها الطازجة على الأرض، وكأن الليل بأسره يتواطأ مع روحه ويصبح خيطًا من الضوء المتدفق على سطح البحر.

طفولته كانت رحلة طويلة من الانتظار والمراقبة، طفل مهموم ، أبيض بلون الأحلام، عيناه خضراء كالشجر، القمر لم يبرح غرفته ثلاثة أيام ملتمعة، كأنه محمول على ماء البحر في رحلة امتدت سنوات من الصبر والأمل. كل خطوة من حياته كانت درسًا في البحر، كل موجة تعلمه الصبر، كل نسمة تعلّمه الحرية، وكل لحظة هدوء كانت نافذة ليكتشف نفسه. المدينة بأسرها كانت مرآة له، والموج صدى روحه، والليل معلمًا صامتًا يعلّمه كيف تكون الحرية حقيقية. 

نشأ بين شوارع صغيرة وساحات صاخبة ومدن مطلة على البحر، المدن التي شهدت تحولات صباه، حيث تعلّم معنى الغياب والانتظار، معنى الوحدة التي تعانق الروح، ومعنى أن يكون الحلم أقوى من كل شيء، وأن يكون الخيال نافذة إلى الحرية المطلقة. في كل زاوية، في كل مقهى، عند كل رصيف قريب من البحر، كان يقيم احتفالات صغيرة مع روحه، يكتب، يقرأ، يحلم، ويحوّل كل حجر وكل شعاع ضوء وكل نسمة إلى جزء من نصه المتدفق، نص يعيش فيه الموج والمدينة والليل معًا.

……

المسرح كان عشقه المبكر، أول لقاءاته مع خشبة الحياة، حيث تعلم أن الجسد والكلمة يمكن أن يخلقا سحرًا حيًا، أن المشهد يصبح حياة، والضوء يصبح نفسًا، وأن الروح حين تتحرر من القيود تخلق عالمها الخاص، عالمًا لا يحده مكان ولا زمان. هنا بدأ يرى نفسه في كل شخصية، عاش معهم في كل حركة، وبقي الممثل والمخرج والمشاهد في آن واحد، كأن المدينة كلها مسرح، والبحر خلفية لا تنتهي، والليل أضواء متحركة على خشبة الخيال.

في شبابه المبكر، كانت السينما ملاذه الثاني، كل فيلم يراه يصبح درسًا، كل مشهد نافذة إلى قلبه، كل ضوء كاميرا ينبض في داخله، كل مبدعى السينما الجديدة، يصبحون مرايا له، يرى فيهم حركته، حركته التي تتناغم مع الموج، مع الريح، مع صمت المدينة. وفي الوقت نفسه، رفض كل ما كان باهتًا، كل ما كان عاديًا، فالفن بالنسبة له ليس مجرد إمتاع، بل اختبار للحياة والخيال، تجربة تخلق الذات.

عبد الحليم حافظ

عشق الموسيقى، وعشق عبد الحليم حافظ، الذي تحول إلى صدى داخلي، صوت يهتز معه، يحاكيه، يغنيه، يعيش داخله، حتى عندما كان غائبًا عن المكان، كانت روحه تعيش معه في كل أغنية، وكل نغمة تتحرك في الشوارع والمقاهي والبحر، وكل طفل يستمع، يصبح جزءًا من هذا الانشراح الروحي الذي حمله في شبابه. ومحمود ياسين، ابن مدينته، كان توهجه السينمائي مرآة له، كل حركة، كل نظرة، كل صمت، كان يختبرها داخله، حتى أصبح جزءًا من نسائجه الداخلية، جزءًا من موج روحه.

وكانت الأيام تمضي، بين الحب والخيال، بين المسرح والسينما، بين الشعر والسرد، بين البحر والمدينة، بين الليل والنهار، كل تجربة تصبح حكاية، كل حكاية تصبح نصًا، كل نص يصبح جزءًا من الحياة التي يعيشها، كل يوم مشروع جديد، قصيدة، قصة، رواية، دراسة، مسرحية، وكل لحظة تتسرب إلى المدينة والبحر معًا، كأنهما مرآة له، كأنهما بيت البحر الذي يخصه وحده.

…..

في بيت البحر، غرفته التي تطل على الشاطئ، كان الليل يمتد إلى الداخل، عبير حروفه يتسرب إلى كل زاوية، يحاول أن يلصق بدائعه في سماء أخرى، وسماء أخرى، يحول كل فكرة إلى موجة، وكل لحظة إلى نغمة، وكل خيال إلى واقع موازٍ، عالمًا لا يعرف القيود، عالمًا لا يحده المكان أو الزمان، عالمًا يتنفس بحرية ويغرق في الضوء والظل، حيث يصبح المبدع والبحر والمدينة والليل كلها جسدًا واحدًا متوهجًا.

في تلك الساعة التي يغيب فيها صخب المدينة وتخف الأضواء عن الشوارع، يصبح البحر وحده سيد المكان، والموج يهمس باسم المدينة كأنه يروي أسرار الليل الطويل. هناك، على الشاطئ، وجدته، يحمل في عينيه بريق السكينة  التي تلتمع على صفحة البحر، وبداخله روح الموج المتأججة المتمردة على جفاء الأيام وفوران الوقت، كأنه و البحر تمردا معا على رتابة الحياة. كانت اللحظة دافئة، دفء الوحدة الحنون التى وهبت للليل هالة من حياة جديدة ..

هو من روح ودم وبحر، ليس له اسم سوى صاحب بيت البحر، الذي يفتح بابه على الندى والمدى، وتلك اللمعة المستحيلة التي غاب فيها دون أن يمسكها بيديه، كأنه حارس للليل والموج والحلم والمدينة كلها، حيث يصبح الوقت ملكًا له وحده، والبحر شاهدًا على كل أسراره، والمدينة كلها مرآة له، والموج صدى روحه، والخيال هو نفسه، لا ينتهي، لا يتوقف، كأنه بيت مفتوح على الأبدية.

أسامة كمال

 مهداه إلى المتمرد الأبدى: 

الكاتب والشاعر والباحث والمسرحى :

محمد حامد السلامونى

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى