

في 2018 صدر كتابي (نجيب محفوظ | السّارد والتّشكيلي) عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، استكشفت فيه تجارب رسامي مصر المستلهمة من أعمال الروائي الفذ، وقد صدرت هذا العام نسخته الإنجليزية عن دار (الناشر) في القاهرة، وترجمته الصربية عن دار (يوتوبيا) في بلجراد. وسر هذه الإشارة أنني دعيت لأتحدث عن سارد وتشكيلي آخرين عاشا في العصر العباسي، وتركا أثرا سرديا وتشكيليا بارزا هو مقامات الحريري بمخطوطة الواسطي.
على ضفاف النيل وفي برنامج يحمل اسم (ضفاف) تبثه القناة الثقافية النوعية (العربي 2) حللت ضيفا في برنامج تقدمه آلاء كراجة وخالد بن أحمد الخلفاوي. وهذا البرنامج اليومي يسلط الضوء على أبرز الأنشطة الثقافية في كافة أرجاء البلدان العربية، والأحداث الثقافية العالمية التي تهم المواطن العربي، من خلال فقرات فريدة وجذابة تعنى بالأدب والسينما والمسرح، ويغطي البرنامج معارض الكتب، والمهرجانات السينمائية والمسرحية، والمعارض التشكيلية، ويتناول بالنقد والتحليل آخر الإصدارات الأدبية، ولذلك جاء اللقاء في إطار مبادرة قطر تقرأ، التي اختارت كتاب “مقامات الحريري” لحملتها :كتاب واحد، مجتمع واحد”.
الدكتور حمد بن عبد العزيز الكواري، وزير الدولة، ورئيس مكتبة قطر الوطنية، في تقرير بثه البرنامج، ثمن المبادرة وهدفها الأسمى: تشجيع القراءة باللغة العربية، وأضاف إن الحملة أثبتت أن النصوص العربية عابرة للعصور ويمكن قراءتها حتى بعد زمانها بألف عام، وهو سحر اللغة العربية.
في التقرير أيضا أشارت ندى بهزاد (مبادرة”قطر تقرأ”) إلى الأعمال التي شارك بها ثلاثون تشكيليا استلهموا المقامات وعصرها، وصولا إلى مصممي الأزياء، وهو ما أعادني أيضا إلى فصل خصص لاستلهام الأعمال الأدبية لنجيب محفوظ لدى مصممي الأزياء الشباب في كليات الفنون الجميلة!
والواقع إن يحيى بن محمود الواسطي (القرن السابع الهجري / الثالث عشر الميلادي) لم يكن يكن مجرد رسام منمنمات، بل يمكن اعتباره بحق مؤرخًا بصريًا للحياة العباسية. فقد ارتقى بفن التصوير المصغّر داخل المخطوطات إلى مستوى جديد، حيث لم يعد الرسم مجرد تزيين للنصوص، بل أصبح وسيلة لتوثيق تفاصيل المجتمع والفكر والثقافة في عصره
سألني محاوراي عن أهمية الشروحات الفنية لمقامات الحريري ، ودور الحكايات المروية في رسم واقع القرن الحادي عشر. فأجبت بأن الرسوم هي العصا السحرية التي تعبر بنا إلى أوانها، والشروحات الفنية مهمة لأنها تحول المخطوط من «نص أدبي» إلى وثيقة تاريخية بصريّة، فهي توضح عادات اللباس، الفضاءات الحضرية (الأسواق، المدارس، المساجد)، وأشكال الاحتفال والعمل، وتكشف كيف فهم القراء والمؤرِّخون اللاحقون النصّ بصريًا.
وفي إجابتي عن سؤال استكناه ميزات منمنمات الواسطي مقارنة بالمنمنمات الفارسية والبيزنطية/القديمة، قلت إن منمنمات الواسطي تتسم بـنبرة سردية واقعية واهتمام بحياة الناس اليومية أكثر من الطابع الأسطوري أو فضاءات القصور في بعض المدارس الفارسية. فضلا عن الفضاءات مفتوحة خارج الإطارات المعتادة، ووجود التعابير الحيّة والمتباينة على الوجوه، فليست الوجوه عند الواسطي بأشكال صماء. كما أنه لم يهتم بالمناظر الطبيعية كما في منمنمات الشرق الأقصى.
عن تعامل الواسطي مع الخط العربي والمنمنمات في شروحاته البصرية، قلت إن المدن العربية والآسيوية تغط اليوم بلافتات أجنبية، ولكن مدينة الواسطي تخلو من أي لافتة غير عربية، والواسطي لم يعزل الصورة عن الكتابة؛ بل عالج النص والخط ككيانٍ واحد وفي مخطوطه، يترك مساحات للنص محاطةً بلوحات مزدوجة الصفحات أو صور كاملة الصفحة، لذا تُبيّن شروحاته البصرية كيف أن الخطّ العربي لا هو حاشية فحسب، ولا الصورة تعليق منفصل، بل هما معًا بنية تواصلية متكاملة، حتى أنه يصنع منها إطارات سابحة أحيانا.
وانطلاقا من التشبيه إلى التجريد سئلت عن أثر أسلوب الواسطي على الفنانين العرب المعاصرين، فتناولت أثره في إخراج الكتب، وتأثر الفنانين به، ليس فقط في العراق، وإنما لدى كثيرين، مستذكرا ومستحضرا أثره لدى الفنان الراحل محيي الدين اللباد، كبير مصممي الكتب .
وقلت إن الواسطي يعد أول فنان تشكيلي يقيم معرضا، فقد عرض رسومه للمخطوطات في المدرسة المستنصرية، وهو ما ألهم الكثيرين من المهتمين، وأمتع الجوالة ومن يزور معرضه. لقد تحوّل الواسطي من سرد تشبيهي واضح إلى لُبسٍ أحيانًا تجريديّ في التعبير — من خلال اختزال الأشكال، تبسيط الخطوط، وإيقاع التكوين — قدَّم نموذجًا يمكن للحداثيين العرب أن يقرأوه كجسر بين تراث المصوّر التقليدي والتجريب المعاصر.
أما انعكاس أسلوب الواسطي مزجه بين الخط والفن التشكيلي ملامح الحياة والبيئة العربية في عصره فظهر في ترجمته للحياة اليومية: السوق، المجلس، المدرسة، الرحلة، الصلاة، ونتيجة ذلك، أصبح التصوّر الفني ذا قيمة توثيقية مع بُعد تعبيري واضح.
وأخيرا أجبت عن حضور لوحات الواسطي الآن في المخيلة الفنية العربية، وما الذي يجعلها خالدة وما دور القيمة التوثيقية، فقلت إن الأعمال مزيج فريد من السرد والوثائقية ودعوت الفنانين المتعاملين بالذكاء الاصطناعي بتحويل هذه المنمنمات إلى واقع يستحضر العصر العباسي.