حسبت آنني من المبكرين٫ لكنني وجدت قاعة جاليري بيكاسو تكتظ بالمحتفين بالفنان الكبير عبد الرازق عكاشة والمحتفلين بآعمال معرضه الاحدث حكايات من باريس. لا ينسى عكاشة آنه روائي لذلك يقدم حكايات بريشة التشكيلي. فهو السارد والتشكيلي معا!
كنت آتابعها فرادى وها هي معا٫ وسآقف بداية أمام أربع لوحات للفنان عبد الرازق عكاشة من معرضه (حكايات من باريس) بجاليري بيكاسو. اللوحات الأربع تبدو متجاورة في ثيمتها، ومتكاملة في سردها البصري، حيث يصوغ الفنان مشاهد الحياة اليومية الباريسية عبر منظور مختلف، وكأنه “جبرتي” يرصد بالعين المصرية من “مشربية” متخيلة تفاصيل المشي، الظلال، الجماعات، والعلاقات الإنسانية
في البداية نرى جماعات صغيرة من البشر تسير في فضاء أصفر مفتوح، وأبرزهم ثلاثة أشخاص في الأمام، بينهم اثنان متجاوران وثالث منفرد. في أسفل المشهد شخصية تجلس على كرسي وكأنها موسيقي أو حكّاء، في تضاد مع حركة الآخرين.
يضعنا الفنان أمام مشهد يزاوج بين الحركة والسكون، بين العابر المقيم والساكن الراوي. هنا تستحضر اللوحة صورة “الجبرتي” المراقب، الذي يسجّل في دفتره مشاهدات يومية. اللون الأصفر المهيمن يوحي بحرارة الزمن وسرعة العبور، بينما الكرسي الأسود يرسّخ فكرة البقاء والتوثيق.
وفي اللوحة الثانية تتكرر صورة الجماعات التي تمشي في اتجاه واحد، وظلالها الممدودة تكاد توازي خطوط الطيف. تظهر ازدواجية: الصفوف المنضبطة في الأعلى، والحوارات الثنائية والثلاثية في الأسفل.
سيقدم برنامج بينالي حلقة خاصة عن معرض الفنان عبد الرازق عكاشة
هنا يستعير الفنان حساسية باريس كمدينة جماعية الحركة ومنظمة الإيقاع، لكنه يلتقط في الوقت نفسه لحظات الهمس والحديث الجانبي. المشهد أقرب إلى “سوق” أو “ميدان”، حيث لا يختفي الفرد داخل الجموع، بل يظل محتفظًا بصوته الخاص. الظلال الطويلة ليست مجرد عنصر جمالي، بل هي امتداد للأشخاص، سجّلهم الخفي على الأرض
ثم تآتي اللوحة الثالثة مع الخطوط التي تبدو أكثر التواءً، وكأن الناس يتقاطعون في مساراتهم. بعضهم متجاور كأنهم فريق، والبعض في دوائر حوارية، والكل مرسوم بلمسات زرقاء وبنفسجية.
هذه اللوحة تشبه ميدانًا حضريًا حيث تتشابك الطرق والأفكار. عكاشة يبرز فكرة المدينة كنسيج حيّ، تُبنى من خلال الحوارات والمصادفات واللقاءات العارضة. اللون الأزرق على الأجساد يذكّر بظل النهر الباريسي (السين)، وكأن المدينة لا تُقرأ إلا بملمس مائي يسري في أرواح العابرين.
وآخيرا المشهد أكثر فراغًا وانعزالًا: مساحات واسعة من الأصفر مع مجموعات صغيرة جدًا من المارة، كل مجموعة تسير في خط مائل نحو العمق.هذه اللوحة هي الأكثر تأملية. كأن الفنان يبتعد قليلًا ليشاهد باريس من نافذة عليا، حيث يصبح الإنسان مجرد نقطة متحركة على خريطة كبرى. نلاحظ أن الألوان أكثر نعومة، والظلال أكثر خفوتًا، ما يوحي بأن هذه اللحظة لحظة تفكير في معنى الوجود العابر.
المجموعة تجسّد بالفعل ما أسميته “مشاهدات جبرتي الحياة التشكيلية الباريسية من مشربية مصرية”. فالفنان ليس مجرد ناقل لمشهد أوروبي، بل يقرأ باريس بعين المصري الذي يراقب الناس كأنهم نصّ مفتوح، يسجّل حضورهم وخطواتهم كوثيقة بصرية.الظلال الطويلة في اللوحات كلها أشبه بكتابة سرّية على أرض المدينة، والوجوه الممحوة أو غير المعرّفة تعزز فكرة أن ما يبقى هو الأثر والحركة لا الملامح الفردية.
المجموعة الثانية من لوحات الفنان عبد الرازق عكاشة تبدو أكثر حميمية وداخلية، وكأنها الوجه الآخر لمشاهد الشارع الباريسي التي تناولناها سابقًا. إذا كانت المجموعة الأولى تسجل إيقاع الحياة العامة، فإن هذه اللوحات الأربع تسلط الضوء على الداخل الإنساني: الجسد، العاطفة، العلاقة الثنائية، والصراع بين الانعزال والاحتواء. وهي تنبض بروح مصري عاش في باريس ثلاثين سنة، قلبه موزع بين جذور الشرق ونبض الغرب.
اللوحة الآولى (أعلى اليمين) تجسيد لامرأة منحنية، غارقة في الأزرق، بجانب آلة موسيقية أو مقعد، كأنها تستسلم لإيقاع داخلي. هنا يظهر أثر باريس كمدينة موسيقى وفنون، لكن الفنان يعيد صياغتها بروح شرقية؛ إذ تتحول المرأة إلى كائن رمزي للانتظار أو الحلم. الأزرق الطاغي يرمز إلى الهدوء والبرد، لكن حركة الجسد تشير إلى محاولة البوح والدفء. إنها لوحة عن قلب يعيش إيقاعين: شرقي حالم وغربي منضبط.
اللوحة الثانية (أعلى اليسار) لامرأة تستند بجسدها إلى فضاء غامق، يحيطها الأحمر والأزرق والأسود. الخطوط متوترة واللون أحمر مشبع بالانفعال. نقرأ هنا صراع الغربة والوحدة. الأحمر خلفية القلب المصري المشتعل بالحنين، بينما الأزرق يغمر الجسد في برد باريس. اللوحة أشبه بصرخة داخلية تترجم معاناة المنفى الطوعي، حيث يلتقي الانتماء القديم بالعيش الطويل في مدينة أخرى.
اللوحة الثالثة (أسفل اليسار) لرجل وامرأة في لحظة قرب جسدي وروحي. يلف ذراع الرجل المرأة، بينما تترك الأخيرة جسدها في شبه استسلام. هذه اللوحة تجسد الحنين إلى دفء العلاقات الإنسانية. عكاشة يرسم اللمسة كملاذ، كأن الغربة الطويلة صنعت حاجة إلى الاحتواء. الأزرق هنا ليس برودة بل خلفية شاعرية، لون المدينة الذي تماهى معه قلب الفنان لكنه ظل محتاجًا إلى دفء عاطفة مصرية أصيلة.
اللوحة الرابعة (أسفل اليمين)تكوين جسدي متداخل، أجساد عارية أو شبه عارية، مرسومة بألوان باردة، لكن حركتها نابضة بالعاطفة٫ وهي اللوحة هي الأكثر جرأة وصدقًا في الكشف عن التوتر بين الجسد والروح، بين الشرق والغرب. في باريس، عاش الفنان حرية الجسد في الفن، لكنه ظل يرسمها بعين شرقية تميل إلى الرمزية أكثر من المباشرة. الوجوه مطموسة أو نصف واضحة، إشارة إلى أن ما يبقى ليس هوية الأشخاص بل معنى اللقاء الإنساني.
هذه المجموعة هي مرآة لقلب مصري حمل القاهرة في وجدانه وهو يعيش باريس ثلاثين سنة. الأزرق البارد هو لون الاغتراب، والأحمر المشتعل هو ظل الشرق. في اللوحات تتجاور الوحدة مع العاطفة، الصمت مع الموسيقى، الجسد مع الروح. إنها ليست فقط لوحات عن نساء باريس، بل عن امرأة رمزية: قد تكون مصر، أو الحبيبة الغائبة، أو الغربة ذاتها وقد تجسدت في هيئة بشرية.