أدب

بين جمالية الرحلة وميتافيزيقا المكان الدمشقي

قراءة نقدية في كتاب (أيّام دمشقية) للدكتور أشرف أبو اليزيد

بين جمالية الرحلة وميتافيزيقا المكان الدمشقي

قراءة نقدية في كتاب أيّام دمشقية للدكتور أشرف أبو اليزيد

‏حمزة مولخنيف

د. حمزة مولخنيف . المغرب

يقدّم كتاب «أيّام دمشقية» لفضيلة الدكتورأشرف أبو اليزيد نصاً رحلياً ينهض على تواشج السيرة الذاتية مع التأمل التاريخي، وينسج من الذاكرة الشخصية شبكةً واسعة من الانطباعات الثقافية، حتى يصبح القارئ إزاء عمل لا يتردد بين أدب الرحلة والمقالة الفنية فحسب، بل ينفتح كذلك على أسئلة الهوية العربية وحدود المكان، وطبقات الزمن التي تتراكم فوق مدينة كانت وما تزال موضوعاً للدهشة والحنين. ولعلّ المدخل الصحيح لقراءة هذا العمل هو النظر إليه بوصفه محاولة لاستعادة “روح” دمشق، لا عبر وصف معالمها أو تدوين وقائعها المباشرة، بل عبر استنطاق رموزها ومجازاتها الجمالية، في توازٍ مع سعيٍ لا يهدأ نحو تأويل الإنسان الذي يسكن المكان، والمكان الذي يسكن الإنسان. إن الكاتب هنا لا يصف مدينة؛ بل يختبر نفسه في مراياها.

يتجلّى في الصفحات الأولى ذلك الأسلوب الذي يمزج بين حسّ الشاعر ورصانة المدوِّن، فيغدو السفر إلى دمشق لحظة انخراط في أسطورة قبل أن يكون انتقالاً جغرافياً. سفرٌ يبدأ بالدهشة البسيطة لإجراءات التأشيرات، لكنه يتطور سريعاً إلى دهشة أعمق: دهشة اللقاء الأول مع مدينة تنتقل من “حبر المراسلات” إلى لحم الحياة. وهنا تلوح روح ابن بطوطة في خلفية النص، تلك الروح التي كانت ترى أن “العالم كتاب، ومن لا يسافر لا يقرأ سوى صفحة واحدة منه”. غير أن أبا اليزيد يبدو واعياً بأن الصفحات لا تُقرأ بالعين وحدها، بل بالذاكرة والوجدان، وبما يختزنه القلب من تشوق إلى ما يسميه بروست بـ“الزمن المستعاد”.

إن دمشق كما تتشكل في هذه اليوميات، ليست مدينة تدخلها، بل مدينة تتسرب إليك. ولذلك يصرّ الكاتب على تلك المفارقة الأولى: “كنت في كل مرة آخذ دمشق معي”. وكأن المدينة ليست مكاناً يُغادر، بل حالة وجودية تتشبّث بروح من يعبرها، حتى يغدو الوداع ضرباً من الفقد الداخلي. وهذه الرؤية تتقاطع مع تصور غاستون باشلار في جماليات المكان حين يرى أن الأمكنة التي نحبها تتحول إلى “بيوت داخلية”، لا تُفارقنا حتى عندما نغادرها.

وتبدأ التجربة الدمشقية فعلياً حين يرتقي الكاتب جبل قاسيون؛ هذا الجبل الذي يقدمه لا باعتباره شاهقاً جغرافياً، بل باعتباره شاهداً روحياً على ولادة المدينة. فالصعود إلى قاسيون هنا أشبه بـ”الانتشاء الصوفي” الذي يحيل النص إلى حركة مولوية، حيث يتحول الدوران حول الذات إلى دوران حول معنى الوجود. إن الكاتب لا يصف المشهد الطبيعي فحسب، بل يحاول أن ينصت لـ“عقيدة المكان”. ولذلك يبدو الغروب من قاسيون أقرب إلى لحظة كشف وجودي، تختلط فيها دموع الفرح بدموع الألم، كما لو أن المدينة تستعرض تاريخها وعناصر مصيرها دفعة واحدة، فيتماهى القارئ معها في ما يشبه “التأمل الكوني” الذي تحدث عنه أمبرتو إيكو حين وصف المدن القديمة بأنها “مخازن للحكمة الخفية”.

ويواصل النص تشكيل صورة لدمشق عبر تفاصيل صغيرة، لكنها شديدة الدلالات: عزف الربابة على الجبل، جندي يستمع إلى أم كلثوم قرب ثكنة، عازف عود في أحد الأزقة. إن الموسيقى هنا ليست خلفية صوتية، بل عنصر دلالي يكشف عن علاقة دمشق بالحنين، وعن تلك الرابطة الغامضة بين الطرب والذاكرة الجماعية. فكما رأى نيتشه، “لولا الموسيقى لكانت الحياة خطأ”، يبدو أن الكاتب يستحضر هذا القول ليجعله مفتاحاً لفهم الروح الدمشقية. فالموسيقى في هذا النص، ليست زخرفة؛ بل هي اللغة التي تحتفظ بها المدينة ضدّ ضجيج الواقع، وضدّ جراح الزمن.

لكنّ قوة الكتاب لا تكمن في جمالية الوصف وحدها، بل في تلك القدرة على تحويل المشاهد اليومية إلى رموز ثقافية ذات عمق تاريخي. فحين يصف الكاتب سوق الحميدية، لا يفعل ذلك بصفته سوقاً للتبضع، بل بوصفه “مسرحاً للحياة”. فالسوق هنا هو ذاكرة دمشق التجارية والإنسانية، وهو فضاء تتقاطع فيه الحرف والصنائع والمهن المهددة بالاندثار، فيتحول المكان إلى نصّ حيّ عن تاريخ المدينة وثقافتها. وهذا يسترجع مفهوم فالتر بنيامين عن “الفلانير”، ذلك العابر الذي يرى في الأزقة والأسواق نصوصاً مفتوحة للتأويل. والكاتب مثل بنيامين، يسعى إلى مساءلة الأشياء، لا مجرد رصدها.

ويبلغ التحليل ذروته حين ينتقل الكاتب إلى مقهى النوفرة، ذلك المقهى الذي صار رمزاً دمشقياً لا يقل عن الجامع الأموي أو سوق الحميدية. فالحكواتي كما يقدمه المؤلف، ليس راوياً شعبياً فحسب، بل هو آخر حارس للذاكرة الشفوية العربية. إن صمته جزء من أدائه، وصوته جزء من سلطة الحكاية، وحكايته جزء من هوية المكان. وهنا يلامس الكاتب سؤالاً فلسفياً عميقاً: هل الحكاية تُروى لكي تُحفظ أم لكي تتحول؟ ما معنى أن تبقى السرديات الشعبية شاهدة على عصر تتغير فيه القيم والوسائط والرموز؟ بهذا يضع النص قضايا التراث غير المادي ضمن إطار نقدي، يتجاوز النوستالجيا الساذجة إلى فهم الحركة الداخلية للكائن الثقافي في لحظة التحول.

ثم يمرّ الكاتب بالبيوت الدمشقية التقليدية، فيقرأ في معمارها بنيةً للروح، وفي زخارفها لغةً لتاريخ طويل من التعايش الجمالي بين الإنسان والطبيعة والدين. هنا يصبح البيت الدمشقي مركزاً رمزياً، يشبه ما يصفه ميرسيا إلياد بـ“المركز المقدس” الذي تنتظم حوله الحياة. فالبيت ليس جدراناً، بل هو “حكاية” يسردها المكان عن أهله، وتشترك فيها المياه والنقوش والنافورة والعتبات. ويبدو أن الكاتب يميل إلى استدعاء هذه الأساطير الصغيرة لأنها تكشف عن تلك العلاقة المتجذرة بين الإنسان وفضائه، قبل أن تهبّ رياح الحداثة التي قطعت كثيراً من خيوط هذا الانسجام.

وفي موازاة القراءة الجمالية، لا يتخلى النص عن وظيفته النقدية. فهو يشير بشكل غير مباشر، إلى تناقضات المجتمع، وإلى التحولات الاقتصادية والثقافية التي تشق المدينة بين زمنين. فالكتب التي تتراكم في سوق المسكية، بطابعها الوعظي أو السحري، تُقرأ بوصفها مرآة لخيارات ثقافية تعكس قلقاً وجودياً وانسداداً معرفياً في لحظة عربية مأزومة. وهكذا يتجاوز النص الطابع الرحلي إلى مساءلة الظواهر في عمقها الاجتماعي.

يمتدّ النَّفَس الفلسفي في «أيّام دمشقية» ليشكّل خلفيةً تأويلية لسائر الأمكنة والأشخاص الذين يعبرون النص. فالكاتب لا يكتفي بتدوين اللقاءات والإشارات العابرة، بل يحوّل كل شخصية وكل حدث إلى علامة ثقافية تتجاوز وجودها الفردي لتصبح جزءاً من “المشهد الروحي” للمدينة. وهنا تتجلى قدرة العمل على الجمع بين السرد الرحلي والتحليل الأنثروبولوجي؛ إذ يغدو كل إنسان يظهر في الكتاب – شاعر، عازف، ناقد، حكواتي، فنان تشكيلي، أو روائي – طرفاً في “ميتافيزيقا المكان” كما يتصورها المؤلف. فالمدينة ليست حجراً وشوارع، بل هي شبكة من الذوات الحميمة التي تشكّل بتعددها وتفاعلها روح دمشق الحقيقية.

يتكئ النص على مبدأ أساس: أن الثقافة هي الخلاص الوحيد الممكن في مدينة أنهكتها السياسة، وأن الفن – بمختلف تجلياته – هو اللغة التي يحتمي بها الدمشقيون من ضوضاء العنف. ولا غرابة أن يختار الكاتب أن يبدأ تأملاته بالفنون، لا بالسياسة أو الاجتماع، وكأنه يريد أن يقول – على طريقة تولستوي – إن “الفن هو آخر ما يبقى للإنسان حين يخذله التاريخ”. وهكذا يصبح العازف الجوال على قاسيون، والحكواتي في النوفرة، والفنان الذي حول بيته إلى معرض، شخوصاً تتقدم على السياسيين والجيوش، لأنها وحدها القادرة على حفظ “نسغ الجمال” الذي يرفض أن يموت.

وتبرز قيمة النص حين ينجح في رصد هذا “العالم المضمَر” الذي لا يظهر للمسافر السطحي. فغالباً ما تُلتقط المدن من خارجها: من أبنيتها، شوارعها ومتاحفها. أما هنا، فدمشق تُلتقط من داخلها: من صالونات الشعر، من ورش الرسم، من حديث المثقفين، من بيوت الفنانين. ومن هنا تكتسب اليوميات بُعداً نقدياً يجعلها أقرب إلى قراءة في تاريخ الذائقة الدمشقية، لا إلى وصف سياحي. فالكاتب يذكّرنا بأن دمشق – على الرغم من سنوات الحرب والضيق – ما تزال “تحتضن الفن كما لو كان آخر أبناءها”. وهذه الرؤية تلتقي مع نظرة إدوارد سعيد إلى دور المثقف الذي يظل “آخر حارس للجمال حين تهجره السلطات”.

ويكشف الكتاب في جزء كبير منه عن “جغرافيا الفن” في المدينة: المعارض التي تُقام في البيوت العربية التقليدية؛ القاعات التي تنبض بالفنانين الشباب؛ الكنائس التي تفتح أبوابها للفن الفطري؛ صالات العرض التي تزاوج بين الحداثة والكلاسيكية. كل ذلك يحضر في الكتاب لا وصفاً وحسب، بل تحليلا لِما يعنيه هذا الحراك في سياق مدينة تتأرجح بين أصالتها العتيقة وتحولات زمنها السياسي. ومن اللافت أن الكاتب يتعامل مع الفن بوصفه “لغة مقاومة”، لا بُعداً جمالياً فحسب، وكأن المدينة تواجه حزنها الداخلي عبر اللون والخط والصوت، وتقاوم هشاشتها عبر الحكاية التي لا تموت.

ثم يأتي اللقاء مع نذير نبعة، الفنان الدمشقي العريق، ليكشف عن بعد أكثر عمقاً: علاقة الفنان بمدينته كعلاقة الابن بالأم. فحين يتحدث نبعة عن لوحاته التي تحمل ملامح دمشق، يتضح أن المدينة ليست موضوعاً للرسم، بل هي مصدر للهوية ومادة للذاكرة، وسبب لقيام الفن نفسه. هنا يتلاقى النص مع أسئلة فلسفة الجمال: لماذا نرسم المكان؟ هل لنحتفظ به أم لنفهمه؟ هل نعيد إنتاجه أم نعيد اكتشافه؟ ويبدو أن نبعة – كما يعرضه الكاتب – يمارس الفن كتطهير، كبحث عن “جوهر دمشق” المختبئ خلف التفاصيل. ولذلك تتداخل في لوحاته المرأة مع المدينة، والرمان مع التاريخ، والطبيعة الصامتة مع الأسطورة؛ فيتحول الرسم إلى محاولة لإعادة تركيب العالم من جديد.

ويتسع النص ليشمل الفنان مصطفى علي، المولع بالنحت وذاكرة الأساطير. وهنا يحضر البعد الأنثروبولوجي عند المؤلف بوضوح: كيف تستعاد الأساطير في الفن؟ كيف تتكرر الرموز القديمة – الآلهة، الحيوانات، الطيور – في أعمال الفنانين المعاصرين؟ كأن الفن الدمشقي في رؤية الكاتب، لا يتعامل مع الزمن الخطي بل مع تاريخ دائري، يعود فيه المعنى ليولد مراراً، متخفياً في أشكال جديدة. وهذا التصور يذكر بلسانيات ليفي-شتراوس حول البنى العميقة للأسطورة، حيث تبقى “النواة الرمزية” ثابتة وإن تغيّر القناع.

ثم ينتقل النص في نسق سردي رشيق إلى حضور الشعراء والروائيين، وفي مقدمتهم حنّا مينه. ويبدو أن الكاتب يتعامل مع مينه لا كأديب فقط، بل كـ”ذاكرة حية” لسورية القرن العشرين. إن زيارة شقته الدمشقية كما يرويها الكاتب، تتحول إلى طقس معرفي، إلى لحظة استدعاء لمسار طويل من الكتابة والمقاومة والفقر والانتصار الروحي. وهنا يلمع العنوان الداخلي للكتاب: كل شخصية في دمشق تمثل “جغرافيا” خاصة، وكل جغرافيا تفتح باباً لفهم المدينة. إن حنّا مينه كما يُقدّمه النص، ليس كاتباً عاش في دمشق، بل كاتبٌ يجعل دمشق تعيش في أدبه، في أمواجه ولغته وحزنه البحري. ويصبح الاقتباس من المتنبي – الذي يورده مينه – جسراً بين زمنين، ودليلاً على أن الأدب وإن بدا فردياً، هو في جوهره استمرار لسلسلة روحية تمتد عبر العصور.

وتتجاوز قراءتنا النقدية حدود الوصف الجمالي لتصل إلى عمق التحليل، حين يتوقف الكاتب عند “العصفور الأحدب”، محمد الماغوط، أحد أبرز رموز الشعر العربي الحديث. إن معالجة الكاتب للماغوط لا تتسم بالإعجاب الجمالي وحده، بل تتضمن قراءة دقيقة لطبيعة السخرية السوداء التي تبني عالمه الشعري. فالماغوط كما يظهر في ثنايا الكتاب، كان “يرى الحزن قبل أن يراه الآخرون، ويكتب الجرح قبل أن ينزف”. وهذه الطريقة في القراءة تقترب من منهج التحليل الوجودي الذي يرى في الشعر تعبيراً عن اختناق الفرد في عالم لا يمنحه مكاناً. إن حضور الماغوط بما فيه من مرارة وتهكم يجعل النص يدرك أن الجمال الدمشقي ليس جمالاً صافياً، بل جمالٌ ينهض فوق تاريخ من القلق والخوف والاضطراب السياسي.

وتكمن براعة الكاتب في قدرته على جعل هذه اللقاءات الثقافية جزءاً من موضوع الكتاب، لا زوائد عليه. فهي ليست إضافة جانبية، بل هي الطريقة التي تتجلى بها دمشق: عبر مبدعيها، فنانيها، شعرائها وموسيقييها. ولذلك يتحول النص تدريجياً إلى “سوسيولوجيا ثقافية” للمدينة، تُبرز قيمها الحضارية ومقاومتها الصامتة، وتكشف عن تلك العلاقة بين الجمال والصراع التي ميّزت تاريخ المدن الكبرى من أثينا وروما إلى بغداد وقرطبة.

ولعل أكثر ما يميز هذا القسم من الكتاب هو تراوحه بين الاحتفاء والنقد. فبينما يحتفي الكاتب بالثقافة الدمشقية، لا يتردد في إظهار ضعف البنية الثقافية الرسمية، وتشتت المؤسسات، وصعود الخطاب الوعظي، وتراجع الكتاب والنشر. وهكذا يمارس نوعاً من النقد الهادئ، لا برغبة إدانة، بل برغبة تشخيص، كطبيب يرى في الجسد العليل قدرة على الشفاء. هذا الأسلوب يعيد إلى الأذهان منهج الجاحظ في البيان والتبيين: نقدٌ عميق لكنه غير عدواني، يهدف إلى الكشف لا الهدم.

إن الكتاب ليس رحلة عابرة، بل محاولة حقيقية لتشييد “فلسفة للمكان”، قائمة على اعتبار الإنسان مركزاً للمعنى، والفن وسيلته للتعالي على الخراب، والذاكرة لحظة مقاومة. وهذا ما يمنح العمل فرادته في أدب الرحلة العربي المعاصر.

يمدّ الكاتب في «أيّام دمشقية» جسر القراءة من جغرافيا الفن إلى جغرافيا الحرب، ليس على نحو تقريري أو مباشر، بل عبر مقاربة تأملية تجعل من الحرب خلفيةً ثقيلة الحضور، لا حدثاً عارياً. فالنص لا يتورط في لغة خطابية، ولا يقدم تقريراً سياسياً، بل يتعامل مع الحرب باعتبارها “ظلّاً” يسقط على الأشياء، فيغيّر معناها ويعيد ترتيب علاقتها بزمانها. وهذا النهج يمنح العمل طاقة رمزية تجعله يتجاوز حدود الأدب الرحلي إلى منطقة تجمع بين الفلسفة والأنثروبولوجيا والتاريخ الثقافي.

في القصير، التي ولدت في موقع مدينة قادش التاريخية، لم يكن لي أن أميز وأنا في بيت مُضيِّفي الشيخ مكرم جروس (إلى يساري) بين المسيحي والمسلم، بعد أن تسابق ضيوفه جميعهم إلى رواية ما تجود به الذاكرة من قصص التآلف والتآخي بينهم، كأنّ مدينة القصير ليس بجسدها سوى شريان واحد هو العاصي، الذي تسبح في دمه كريات العيش المشترك والسلام. أهداني صاحب البيت عباءة أرتديها في المجلس، لا أزال أحتفظ بها تحمل عبق تلك الجلسة التي ضمت الشاعر السوري محمد وليد المصري في صدر الصورة، والمهندس محمد محب الدين (أبو حسن) (إلى يمين المصري ويسار مضيٓفنا).
حين انتقلت إلى مكتبة المهندس أبو حسن استقبلتني فرمانات ومخطوطات، وشاهدت أوائل أعداد الصحف وأندر نسخ المجلات، وكدنا نتوه بين الكتب والمجلدات، والوثائق التي تبدأ بشجرة نسب طولها مثل طول الحارة التي ولد بها، لكن عمرها أربعة قرون كاملة، يجعلنا أبو حسن نمسك بطرفها، ويسحب الطرف الآخر، الذي يمتد ـ ربما ـ حتى مسقط رأس أجداده المولودين في (قادش / القصير) أو حولها.
كان الولع بالوثيقة قد نشأ في بيت الجد الذي عمل بقسمة الأراضي في القصير، وتولى تسلُّم البريد الوارد للمنطقة في جوسيه على الحدود اللبنانية. يقول لي أبو حسن: عندي وثيقة بخط جد الشاعر محمد وليد المصري، فقد كان الوحيد الذي يعرف الكتابة هنا قبل 150 عامًا. وقد جاء البلاد ضمن القوات العثمانية فلم يغادرها، ومثله كثيرون.
يستطرد أبو حسن: من أندر الوثائق التي عرضتها في أحد معارض التوثيق على مستوى القطر ما كتبه أهالي مدينة حماة، مطالبين بأن يكون نهر العاصي لهم وحدهم، وأنه لا يجوز لأهالي مدينة حمص حق الاستسقاء منه!

يتضح هذا التحول حين ينتقل الكاتب إلى بلدة “قَدَش” وإلى “القصير”، بوصفهما فضاءين يشكلان كشفاً دقيقاً لثنائية الجمال والدمار. فهنا لا يعود المكان مسرحاً للحياة الفنية، بل يتحول إلى نصّ مفتوح على الجراح، على البيوت التي صارت أطلالاً، وعلى الذاكرة التي تقاوم الزوال بكل ما تستطيع من بقايا الصور والمشاهد. ويبدو الكاتب واعياً لهذه التحولات في نبرة النص؛ إذ يميل إلى لغة أكثر هدوءاً، كأن الحزن يجعل الكتابة تتخفى خشية أن تبدو صاخبة في حضرة الخراب. وهذا الأسلوب يذكر بما قاله رينيه شار: “في زمن الكارثة، تصبح الكلمات كائنات هشة يجب حملها برفق”.

وقد يظنّ القارئ أن الكاتب سيقدم هنا رؤية سياسية، لكنه يتفادى هذا المطبّ تماماً. فالمساءلة عنده ليست مساءلة عن الأطراف والبيانات والمواقع، بل عن الإنسان، عن معنى أن يعيش إنسانٌ الحرب، وأن يفارق بيته وأهله وماضيه. ولذلك يحفر النص في الطبقات العميقة للذاكرة الجمعية، في تلك المناطق التي يختلط فيها الواقعي بالرمزي، حيث لا يمكن للكاتب إلا أن يتذكر نصوص الرحالة الذين مرّوا بمدن منكوبة عبر التاريخ، من ابن جبير إلى ناصر خسرو. فهؤلاء أيضاً كتبوا عن مدن مهزومة، لكنها كما يقول ابن جبير، “تهزم الهزيمة حين تبقى”. وفي هذا السياق، يشدد النص على تلك القدرة العجيبة للمدن على الاحتفاظ بصورة ما عن ذاتها، حتى وهي محطمة.

وفي “قدش” تحديداً، يبرز التوتر بين طبقات الزمن: الزمن القديم الذي يطفو من أعماق الأرض في شكل آثار وأساطير، والزمن الراهن الذي تنطق به الجدران المهملة والطرقات الخاوية. وهنا يتعامل الكاتب مع الزمان كما يتعامل عالم الآثار مع طبقات التربة: كل زمن طبقة، وكل طبقة معنى، وكل معنى مفتاح لفهم أعمق. ومن خلال هذا المنظور، يقترب الكاتب من فكرة بول ريكور عن “الذاكرة الجريحة”، تلك الذاكرة التي لا تُشفى بالنسيان، بل بإعادة سرد الحدث بطريقة تمنح الإنسان قدرة على المصالحة مع ذاته.

ويتخذ السرد منحى أكثر تجريداً حين يصل الكاتب إلى “القصير”. فالقصير ليست مجرد بلدة تظهر في الكتاب، بل تتحول إلى رمز للعيون التي تُطفأ والبيوت التي تُهجر والأحلام التي لا تجد مستقراً. وهنا تتوقف اللغة طويلاً عند تفاصيل صغيرة لكنها مشحونة بالمعنى: أبواب متروكة، نوافذ بلا زجاج، مدرسة فقدت تلاميذها، حقول كانت خضراء ثم صارت تراباً يتيماً. ويبدو أن الكاتب يحاول من خلال هذه التفاصيل تجسيد السؤال الفلسفي الأكثر صعوبة: كيف يُعاد بناء الإنسان بعد الكارثة؟ ليس السؤال عن إعادة الإعمار المادي، بل عن إعادة الإعمار الوجداني، عن ترميم الروح التي أصابها التشقق. وهذا ما يجعل النص قريباً من مقاربة حنّة أرندت حين تحدثت عن “الشر كحضور بطيء، لا كفعل مفاجئ”، وعن الحاجة الإنسانية إلى سرد ما حدث من أجل حماية الذات من الانكسار الداخلي.

ومع ذلك، لا يغرق النص في سوداوية قاتمة. فثمة دائماً خيط رفيع من الضوء يشق العتمة: وجوه الأطفال الذين يتشبثون بالحياة، شجرة بقيت خضراء رغم الجفاف، امرأة تبتسم رغم الحزن، عجوز لم يغادر بيته لأنه يعتبره “قلبه”. هذه اللقطات الصغيرة، رغم بساطتها، تساهم في تقوية بنية النص الجمالية؛ فهي تمنع النص من التحول إلى بكائية، وتجعله أقرب إلى تأمل في معنى “الصمود الجمالي”، ذاك الذي تحدث عنه الشاعر الألماني ريلكه حين قال: “الجمال ليس سوى بداية الرعب الذي نتحمله بصعوبة”.

ومن العناصر اللافتة هو قدرة الكاتب على دمج صوت الذات مع صوت المكان. ففي مواضع عديدة، تتحول المدينة إلى متكلم، كما لو أن للأطلال لغتها الخاصة. وهذا الأسلوب يذكر بتقنيات الرواية الحديثة التي توسّع مفهوم السرد ليشمل غير الإنسان. وإذا كانت دمشق قد تحدثنا عنها سابقا عبر الفن والجمال في بدايات القراءة، فإن المدن المتعبة تتحدث هنا عبر الصمت والفراغ. وكأن الكاتب يريد أن يؤكد أن للمكان شكلاً من “الوعي”، أو على الأقل، أن للإنسان قدرة على سماع الوعي الكامن في المكان إذا أصغى بما يكفي.

ويُلاحظ أيضاً أن الكاتب يعامل الخراب لا كظاهرة طارئة، بل كجزء من دورة كونية: مدن تولد ومدن تنهار، جدران تبنى وأخرى تسقط، جماعات تعيش وأخرى تهاجر. وهذا التصور يُعيد النص إلى فلسفة التاريخ كما صاغها ابن خلدون، حين اعتبر أن الدول والمدن تخضع لقوانين “العمران”، وأن الازدهار والخراب ليسا سوى مرحلتين في علاقة الإنسان بالزمن. وهكذا لا يصبح الدمار نهاية نهائية، بل طوراً من أطوار التاريخ، وإن كان أقساها وأكثرها تمزقاً للروح.

ولا يفوت الكاتب أن يربط بين الحرب وغياب الفن. ففي الوقت الذي تفيض فيه دمشق بالفنانين، كما رأينا سابقاً، تبدو المدن المدمرة بلا أصوات إبداعية، وكأن الحرب تصادر ليس الحجر فحسب، بل القدرة البشرية على إنتاج المعنى. وهذا الربط يمنح النص عمقاً فلسفياً؛ فالفن هنا ليس رفاهية، بل ضرورة وجودية. إنه الدليل على أن الإنسان ما يزال قادراً على الوقوف. ولذلك يصبح سؤال الكاتب ضمنياً: متى يعود الفن إلى هذه المدن؟ ومتى تستعيد قدرتها على إنتاج الجمال من جديد؟

ومع ذلك، لا يقدم النص جواباً مباشراً، لأنه يدرك أن الأسئلة الوجودية لا تبحث عن إجابات جاهزة، بل عن وعي أعمق بالمسار. حيث يكتفي بإظهار المفارقة: الجمال الذي يحتضر في بعض المواضع، ويزدهر في مواضع أخرى؛ المكان الذي ينهار هنا، ويبني ذاته هناك؛ الإنسان الذي يفقد الأمل، لكنه يحتفظ بجرأة مواصلة السير. وكأن الكتاب يسعى إلى تأكيد أن المدينة – أي مدينة – ليست جسداً واحداً، بل كائن متعدد الأرواح.

يتضح أن الكاتب لا يسعى إلى تقديم سردية واحدة عن سورية، بل خمسين سردية، بقدر عدد الشخصيات والقرى واللقطات التي يمرّ بها. وهذا التنوع، الذي يبدو لأول وهلة تشتيتاً، هو في حقيقته غنىً، لأنه يجعل الكتاب أقرب إلى مرآة واسعة تعكس وجوهاً عديدة، وربما متناقضة، من الواقع السوري.

يبلغ الكتاب ذروة نضجه السردي حين يعود المؤلف في ختام رحلته، إلى التأمل في معنى الكتابة نفسها. فبعد أن جاب الأمكنة واستنطق الرموز ولامس الجراح، لا يجد أمامه سوى سؤال أصيل: ما الذي يمكن للكتابة أن تفعله إزاء كل هذا؟ هل تكتفي بتسجيل الوقائع، أم أنها محاولة لخلق معنى جديد ينقذ الإنسان من السقوط في عبثيّة الألم؟

وفي هذه النقطة، ينسجم النص مع ما قاله موريس بلانشو بأن “الكتابة هي التجربة التي تنفتح فيها الذات على حدودها، وتدرك أن اللغة ليست وصفاً للعالم بل إعادة خلق له”. وهكذا يبدو أن الكاتب وهو يستعيد المشاهد التي مرّ بها، يعي أن الكتابة ليست مجرد احتفاظ بالصور، بل فعل مقاومة ضدّ المُحوِّلات الكبرى: الزمن، النسيان، الحرب، الفقد، التحول.

ويتخذ النص في خاتمته شكلاً شبيهاً بالخلاصة الوجودية، إذ تتحول دمشق من مكان محدد إلى رمز للمدن كلها؛ ويغدو الإنسان الذي يسير في شوارعها – سواء كان من أهلها أو زائراً – تمثيلاً للكائن الذي يحاول أن يوازن بين ما يريد أن يكونه وما يفرضه عليه العالم. هنا يتحول الكتاب الرحلي إلى كتاب عن الإنسان وعن هشاشته، وعن قدرته العجيبة على “إعادة اختراع نفسه” حتى في أكثر اللحظات قسوة. وكأن دمشق في هذا السياق، تصبح مختبراً للروح البشرية، تماماً كما كانت أثينا مختبراً للفكر، وقرطبة مختبراً للعلم، وفاس مختبراً للروحانية.

ويبرز الدكتور أبو اليزيد في الصفحات الأخيرة حضورا لافتا لفكرة “المدينة بوصفها ذاكرة”، تلك الفكرة التي طورها بيار نورا في مفهومه عن “أماكن الذاكرة”. فدمشق، كما يصورها الكاتب، ليست مدينة يمكن المرور بها بسهولة؛ إنها “مكان ذاكرة”، كثافته الشعورية تجعل الزائر جزءاً من تاريخها، وتمنحه إحساساً بالانتماء العابر للعصور. وهذا ما يجعل وداع دمشق في نهاية الرحلة أشبه بقطع خيط معنوي، لا بإنهاء إقامة. ولعل هذا الإحساس هو الذي جعل الكاتب يعود إليها في مرات عديدة، وكأن بينه وبينها عهداً غير مكتوب.

ثم ينفتح النص على سؤال فلسفي آخر: هل يمكن للإنسان أن ينتمي إلى مدينة لم يولد فيها؟ وهل الانتماء فعل جغرافي أم روحي؟

والجواب الذي يقدمه النص – دون أن يُصرّح – هو أن الانتماء فعل تفاعل: حين يرى الإنسان نفسه في مرايا المدينة، ويتعرف فيها على شظايا من روحه، تنشأ رابطة أقوى من رابطة الميلاد. وهذا يتقاطع مع ما قاله هيغل حين اعتبر أن الروح لا تجد ذاتها إلا عبر الآخر، وأن الوعي لا يتحقق إلا في مرآة خارجية. فالمدينة بهذا المعنى هي مرآة الإنسان، والإنسان هو مرآتها، وكل منهما يكتب تاريخ الآخر.

ومن أهم عناصر القوة في أواخر الكتاب هو استعادة الكاتب لتيمة “المشهد الأول”، أي اللحظة الأولى التي التقى فيها دمشق: تلك الحماسة الأولى، تلك الرؤيا المتوهجة، تلك الرغبة في الاكتشاف. فإعادة التذكّر هنا ليست مجرد حنين، بل هي مساءلة: ماذا بقي من تلك الرؤيا؟ وكيف غيّرت التجربة اللاحقة صوت الصورة الأولى؟

بهذه الطريقة، يتحول الكتاب إلى دائرة تبدأ بالمشهد الأول وتنتهي به، في انسجام واضح مع مفهوم “التطابق الدائري” عند ميرلوبونتي، حيث تتحرك التجربة الإنسانية في دوائر تتوسع، لكنها تعيد إنتاج جوهر واحد في مستويات مختلفة.

ولعل القيمة النقدية الأبرز التي يمكن استخلاصها من الكتاب هي أنه يقدم نموذجاً لأدب الرحلة العربي المعاصر الذي يتجاوز النزعة الوصفية إلى النزعة الفلسفية التأويلية. فالرحلة هنا ليست حركة من مكان إلى مكان، بل حركة من فهم إلى فهم، ومن طبقة إلى أخرى من طبقات الذات والمكان. وهذا ما يجعل الكتاب أقرب إلى نصوص الرحالة الصوفيين، من أمثال ابن عربي في الفتوحات، أو النفّري في “المواقف”، حيث يصبح السفر انتقالاً في المعنى، لا في الجغرافيا.

ويزداد هذا البعد وضوحاً حين نلاحظ أن الكاتب يتعامل مع المدن السورية كلّها بوصفها “عوالم متوازية”، لكل عالم منها موسيقيته الخاصة، وذاكرته وجرحه وأمله. فدمشق هي مدينة الفن والذاكرة؛ والقصير مدينة الندبة؛ وقدَش مدينة التوارث الأسطوري؛ وحلب – وإن كان حضورها عابراً – مدينة العظمة المجروحة. هذا التنوع في المقاربة يؤكد أن الكتاب لا يسعى إلى تقديم “صورة موحدة” لسوريا، بل إلى تقديم فسيفساء تكشف عن تعددية الروح السورية وتعقيدها. وهي نظرة تتجاوز التبسيط الإعلامي الشائع، وتعيد إلى الإنسان مكانته بوصفه مركز السؤال.

وتتضمن الصفحات الأخيرة أيضاً تأملاً في معنى الزمن. فالكاتب يعلن – ضمناً – أن السفر ليس تجربة مكانية فقط، بل زمنية أيضاً. إنك حين تسافر لا تغادر مكانك فقط، بل تغادر زمنك أيضاً، وتدخل في زمن المدينة التي تزورها. ولذلك، كانت دمشق بالنسبة إليه زمناً آخر: زمن البدايات، زمن التعلق بالجمال الأول، زمن الاكتشاف الذي لا يعود. ولذا فإن الكتاب كله في حقيقته محاولة لاستعادة ذلك الزمن، ولتثبيت ما يتبقى منه في ذاكرة الكتابة. وهنا تبرز مقولة بروست من جديد: “إننا نكتب كي نجد الزمن الذي فقدناه”.

ومع وصول الكتاب إلى نهاياته، يدرك القارئ أن «أيّام دمشقية» ليس مجرد “سفر إلى دمشق”، بل هو عمل قائم على ثلاث ركائز: الذاكرة، الجمال، والجرح.

الذاكرة باعتبارها الحافظة الأولى للمعنى؛ والجمال باعتباره القوة التي تنقذ الإنسان من اليأس؛ والجرح باعتباره مصدر الأسئلة الكبرى التي تدفع الإنسان إلى الكتابة.

وعليه، يمكنني القول إن الكتاب نجح في بناء “ميتافيزيقا للمكان” تقوم على تداخل الحسي بالرمزي، واليومي بالأسطوري، والفردي بالجماعي. فقد أثبت أن المدينة ليست ما نراه فيها، بل ما نراه من خلالها. وأن الرحلة ليست إعادة اكتشاف للعالم فحسب، بل إعادة اكتشاف للذات أيضاً.

يعطي الكتاب درساً هادئاً لكنه عميق: إن المدن لا تُقرأ بخطوطها، بل بظلالها؛ ولا تُفهم بشوارعها، بل بأصوات ناسها؛ولا تُحبّ بعقلٍ بارد، بل بقلب مستعدّ للدهشة. وهكذا لا يغادر الكاتب دمشق، بقدر ما يغادر نسخة من نفسه، ليعود بواحدة جديدة، أكثر امتلاءً وفهماً ونضجاً.

بهذا تكتمل قراءتنا النقدية المتواضعة لـ«أيّام دمشقية» السِّفْر الماتع الفريد في بابه، لا كاستعراض لمحتوى الكتاب، بل كحوار فلسفي مع روحه، ومع الأسئلة التي يثيرها حول الإنسان والمدينة والزمن والذاكرة والفن، والجرح الإنساني الذي لا يكفّ عن البحث عن معنى.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى