
تكشف القصائد التي بين أيدينا للشاعر الليبي محمد القذافي مسعود عن صوت شعري متمرس يتكئ على تجربة وجدانية حافلة، حيث تتقاطع في نصوصه صور الغربة، والانكسار، والحب، والحنين، بنبرة حادة أحيانًا، ومتهكمة في أحيان أخرى، لتولد شعريته من تماس الجرح مع المفارقة، والوجد مع السخرية السوداء.

ويكتب الشاعر بأسلوب نثري يجنح إلى التكثيف، ويعتمد على الصورة الشعرية المركبة التي تستعير من الواقع مفرداته، ثم تعيد تشكيلها على نحو سوريالي. في قصيدة “عرجون مذبوح الآهات”، يفتتح بسؤال وجودي، يحاكي صرخة الذات في وجه الحيرة والخذلان، متبوعًا بتمثيل رمزي للحب والمرأة ككائن ملتبس يجلب الفتنة والوجع:
“كيف يستوي وجهك والشمس / يا معصية الآخرين؟”
وهو يبرع في استخدام المجاز والانزياح اللغوي، حيث تختلط الأزمنة والأمكنة، وتتماهى العواطف مع العناصر الطبيعية:
“تقطع نايَاتك أوردتها / تدمعين جمراً”
كما يستخدم تكرار التوازي في الصور لبناء إيقاع داخلي، رغم غياب التفعيلة الكلاسيكية.
الاغتراب والحنين هما محور قصائد مسعود: سواء كان اغترابًا مكانيًا كما في “أطياف عائدة” أو وجدانيًا في “لوز المعنى”، حيث تبدو الغربة كحالة وجودية لا كمسافة فقط.
“مضيت بين أربعين غربة / تجرعت المرارة الأربعين”
أما الحب فيرافقه الخذلان، وكأنه حب منقوص، لا يبلغ مداه، دائم التأجيل أو مستحيل كما في قوله:
“كالطريق إلى القدس / يبدو الطريق إليك مستحيلاً”
الطفولة كمرآة للعبث :البراءة المجروحة
قصيدة الشاعر محمد القذافي مسعود وعنوانها “طفولة” تنطوي على كوميديا سوداء وسخرية من الذات، تجرد المشهد الطفولي من براءته لصالح كشفٍ فادحٍ لغرابة الحياة:
“ضاجعت الساعة / فوصلت اللذة متأخرة / بتوقيت الفياجرا”
لغة الشاعر مشبعة بالترميز، تتعمد الهروب من المباشرة إلى تشكيل دلالي مفتوح. أحيانًا تبدو الصور غائمة، مفرطة في الذاتية، ما قد يصعب التلقي، لكنه يُحسب لها أنها لا تُساوم على عمق التجربة.
يمتلك صوتًا شعريًا خاصًا به، يمزج بين الغنائية والوجودية، وبين الألم والسخرية، دون أن يسقط في العاطفية المجانية أو الزخرف اللفظي.
والملاحظ من شخص يهتم باللغة وبنية القصيدة أن بعض القصائد تحتاج إلى مزيد من التركيز البنائي، إذ تتشتت الصور أحيانًا، ويبهت المعنى لصالح الزخرفة أو التداعي الحر، كما في قصيدة “لمختلفين في نعناع النظرة”.
وثمة ميل إلى المونولوج الداخلي، الذي رغم جمالياته قد يُثقل النص إذا لم يرفده حوار مع العالم أو الآخر. والشاعر في أوج تألقه حين يزاوج بين الفكرة العميقة واللمسة الساخرة، كما في “طفولة”، وقد يصل لمستوى من الشعر الصادم والمباغت.
هكذا يأتي محمد القذافي مسعود صوتًا شعريًا ذا فرادة، يكتب من قلب الجرح الليبي والعربي، لكن بلغة تمضي بعيدًا عن الخطاب السياسي المباشر، نحو الكشف الشعري العميق عن الوجود، الحب، الغربة، والانكسار. شعره مزيج من الحكمة والتهكم، ومن الحلم والخذلان، وهو ما يجعل تجربته تستحق القراءة المتأنية، والتوقف عندها كأحد أصوات الشعر النثري العربي الحديثة اللافتة.
المختارات
عرجون مذبوح الآهات
من أوجدك في ارضي
كذبة ؟
من ألبسك فتنة الأسئلة ؟
وأثارك في عاصفة
صرت موعداً
تفترشين جفني
المثقل بالسهـد
طفلي الوردي .
كيف يستوي وجهك والشمس
يا معصية الآخرين ؟
حين تزأر في صمتهم
يكشفون عن أنياب فضيلتهم .
تقرعين الدمع في شوارعي
تتسلقين هدوئي
بخفة حيلة طموحة .
انتعل الجرح
ليصل الوجع فيك أقصاه
تقطع ناياتـك أوردتها
تدمعين جمرا
تستظلين بصمتي
عله يهبك عرجون
مذبوح الآهات.
فيروزيات ماطرة
ما بيني وبين الخريف
أشواق تحيا
فيروزيات ماطرة
وجع يضيق الشتاء بحمله .
فكل غيمة وان احتضرت
لن تهطل كسواقي ألمي .
يا قلقي حين يزهر
سهدا وقلة حيلة .
يترنح السؤال طيلة
عاصفة بين قلب ووسيلة .
فخـذ البيــت
نكتبُ على فخذِ البيت
إننا هنا.
ننهش غربة الشارع
ليصير الزقاق
قمراً على كتف الروح.
جرح الريح..
تبوحه كمنجة
يشرب البرق كأسه
ونشرب السؤال .
عصافير تكسر حدة البرد.
ما جدوى البقاء ..؟
والزيتون ترك للنوافذ
أن تفُضي لما تبقى
من هتاف في آخرنا
واضعة ً إياه في الطاحونة
لمختلفين في نعناع النظرة
ينثرُ ضياعه
يوزع الدم في الجمر
يرسم الزعتر
يمنحُ كأس الشاي
لمختلفين في نعناع النظرة
أهي خضراء .. أم مالت ..؟
يغزل الحكايا بقهوة
من مطر الدهشة .
معتاداً أن يصعد الدرج
إلى انحناءات في الغيم
إلا أن عظماً في الطعم
المُر .. انكسر.
طفولـــــــــة
موغل في طفولة أخطائي
لا أميز دودة الأرض
من خلدها
قلت للشجرة : حبيبتي
فانحنت للريح
*
ظننتُ العصفور رصاصة
فارتميت أرضا
حين طار هارباً.
*
ضاجعت الساعة
فوصلت اللذة متأخرة
بتوقيت .. الفياجرا
***
حاولت الاختباء خلف
حذائي .. لكنه خذلني
إذ تنحى جانباً.
**
مشيتُ متعرجاً
أرمي الظل بحجر
فيرتد رصاصاً
وعراجين تنزف .
أطياف عائدة
سؤال يمد جذوره
في عمق التربة
ينمو تحت مطر الغربة
قلبي يهاتف نبضه
حتى أصل أقصى نقطة
يرتمي عندها جبل من العقبات.
أعود لأشتهي موعدا يجلس في
إطار المستحيلات
الهامس لأوتار الأحاسيس .
لغزل العيون.
**
كلما شددت عزمي وخطوت نحوها
بخطى واثقة.
حاولت أن أدرك موعداً يهدره الوقت
يسحبه سلك الخوف
يسخر منه الحال .
*
كالطريق إلى القدس
يبدو الطريق إليك مستحيلاً .
الظنون في بلدتي
ألسنة حادة.
أطياف الحب بالخيبات عائدة.
لأجلك يهيم في فضاءات الخيال.
يبحث عن عش لا تصله البنادق
طريق يلتقي الشاعر فيه
بوردة تدعى فاطمة.
أظافرها قصيرة لا تخدش الحياء
لسانها رطب
يتفوه بعسل الكلام .
لا شيء أمامي أو خلفي
ذهبٌ من الكلام ..
فضة من الأحزان
لا حبيبة لي أصدقُها
بلسان مُحترف للغُات .
فكلما دنت شمس مني
أخفقتُ في ركوب ظلي إليها.
قصائد
يعلم ولا يعلم
يسند ميل سؤاله
الشاهق .
من دون أن يعلم
إنه المائل .
ضيقة
لاصوت يعريني
سوى مناديل الوقت
تمسح نفسها
فيولد الخراب
مزهرا احلاما ضيقة .
جـــرح
يشير جرحي إلى
الساعة المقبلة
عن ألـم
يجلدني بالضحك .
لــــوز المعنى
مضيت بين أربعين غربة
تجرعت المرارة الأربعين
سلكت الآمن إلى سكان الصدر .
طرقت أبوابهم
خرجت الملوحة على
لسان الهباء .
يعبرون بضجرهم فوق سري .
آه ما أثقلني .
تطوف الدمعة حول نفسها .
يكبر خريف الهجرة
والوطن رصيف .
شائكة قهوتك
المثقلة بشيخوخة الدمع
حين تتوقف في حلقك القطـارات .
أيها الماضي في أغنياتك .
الراكب صخب الأراجيح .
رائحة خبز التنور
توقظ أمانيك من
كســلها .
تقطف أوان المـر
قبل تـد رج لـوز
المعنى فيك .