أدبشخصيات

(خَشَبُونا) مآلات الطُّموح والانعتاق

راءة بقلم طارق العمراوي، تونس

كان الزمان والمكان كإطارين لقصة (خَشَبُونا) للناشئة لكاتبتها د. (ايمان بقاعي) موغلين في القدم والبُعد. فالزمان “قديم، قديم، قديم…”، وقرية مملكة السلام “بعيدة، بعيدة، بعيدة…”، الزَّمان والمكان والقِدَم والبُعد محكومةٌ كلٌّها بالرقم (3)، هذا الرقم الذي تتوارثه النصوص الأسطورية، ونصوص الحكي، وقصص الأطفال واليافعين، والنّصوص الدينية، ليتحول الزَّمان ومعه المكان إلى بُعْدٍ خرافي، فيستمد وقتَها هالتَه من كل ما هو سِحري وخيالي.

ويتمركز النَّص القصصي في (خَشَبُونا) حول شخصية محورية تحرِّك الأحداث   بطريقتها   ولصالحها وطبقًا لتصوُّرها للحياة والمجتمع والآخَر، فهذه  الثُّلاثية قادتها في مسيرتها من البيت العتيقِ إلى القصرِ، فلعبةُ الأمكنة وجدليَّتُها أضافتا الكثير من  الديناميكيَّة    للسَّردِ،  فالقارئ يلاحظ الفروقات العديدة بين البيت العتيق والقديم بغرفته الوحيدة وأثاثه الخشبي     وحديقته المزروعة بنباتات الريحان والنعناع والزعتر الأخضر، مقابلَ حديقة القصر المترامية     الأطراف ومقاعدها ذات الفرش  الوثيرة ووسائد ريش النّعام وقصر مضاءة أسواره العالية عكس الجدران  المتآكلة التي تشكِّل سُور بيت البطلة (خَشَبُونا)،  إلى جانب           غرف القصر التي لا تُعَد وبوابته الحديدية، والذي تعادل مساحته مساحةَ مئةِ  كوخٍ أو أكثر.

لكن، رغم قدم بيتها المتواضع  وتآكله،  إلا أنه يمثل جزءًا مهمًّا من ذاكرتها وذكرياتها الحلوة والمرة مع مكتبة  نهلت منها  الكثير، وقد تنوعت مضامينها من: “قصص النَّاسِ النَّاجحين، حكايات الجنِّ والعفاريتِ والأقزامِ والسَّحَرةِ، كتب رحلاتٍ، كتب حكمةٍ، كتب شِعرٍ، وكتب تتحدثُ عن اللهِ والأرضِ والإنسانِ والحيوانِ، وكتابان لا يغادرانِ وسادتها: كتابُ مزرعةِ الحيوانِ، وكتابُ ألفِ ليلةٍ وليلةٍ”، لنجد في المقابل مكتبةَ القصر عامرةً، حتى إنها ودَّتْ لو تعملُ أمينتَها “لو لم تكنِ الوظيفةُ مشغولةً منذُ ثلاثينَ سنةً مِن قِبَلِ أمينِ المكتبةِ العجوزِ المثقّفِ ثقافةً رفيعةً؛ فهي تجيدُ القراءةَ أكثرَ من أيِّ عملٍ في العالمِ”، ولكنها اكتفَتْ  بأن راحَتْ تصنِّفُها حسبَ موضوعاتِها، مُساعِدَةً أمينَ المكتبةِ الّذي طالما نصحَها بقراءةِ كتبٍ رائعةٍ، وطالما قرأتْ له بصوتٍ عالٍ كتبًا أُخرى اكتشفَ معَها أنَّ “الفتاةَ ذوّاقةٌ، وتحملُ بين كتفيها رأسًا أكبرَ بكثيرٍ مِن رؤوسِ أندادِها”.

أما شخصيات القصة، فلكل منها  دور يخدم القصة  في مسارها،  وأهمها: شخصية البطلة الفتاة (خَشَبُونا) التي جمعت ما لا يُجْمَع؛ فقد كانت مثقَّفة، مُحِبَّة للكتاب، قارئة له، مُفْعَمة بالحيوية والنَّشاط، مقبولة ومحبوبة عند الجميع من رجال قريتها ونسائها إلى جمهور العَاملين في القصر، حتى أجمع الجميعُ أنها عاقلة، وذكية،  واختصر صفاتِها الفكريةَ الأميرُ وقتَ قال: لا أعرف أنَّ في شعبي فتاةً تملكُ هذا العقلَ الرَّاجحَ”.

إضافة إلى ذلك، كانت (خَشَبُونا) حكيمة، أبهرت  الأمير في أكثر من موضع بطريقة حديثها وفهمها للحياة والمجتمع، بحيث يتوقع القارئُ صراعًا بين شخصيةٍ حصيفةٍ تقابلُ شخصيةَ الأمير “الطائش، المُغامِر، الضَّاحِك، الذي يحبُّ اللَّعبَ والتَّسليةَ وكأنَّه ابنُ خمسِ سنواتٍ لا ابنَ عشرين سنة؛ لكنَّ هذا لا يمنعُ كونَهُ طيبَ القلبِ، خجولًا، وذكيًّا، وهي صفاتٌ إيجابيّةٌ تغفرُ صفاتِهِ السّلبيةَ”، وأسوأها “التَّنَمُّر”.

ولكن الصّراعَ لم يقع، بل ظلَّ أقرب إلى التّحدي الذي كبرَ، فكان له تأثير إيجابيٌّ حوَّلَ الأميرَ إلى شخص آخر راشد، مهتم بشؤون مملكته ورعيته، باحث لهم عن حلول جدّيّةٍ  لمشاكلَ لم يكن يعرفُ عنها شيئًا، وذلك بعد أن قدمت له (خَشَبُونا) نماذجَ “مبدِعين مُهْمَلين” من رسامينَ ومُغَنّين وعازفينَ وشعراء وكتّاب ومفكرين يحتاجون إلى القليلِ مِن الرِّعايةِ والاهتمامِ ليُبدعوا”، وتقصدُ بالرّعاية، رعاية الحاكم الذي بيدِهِ رفعهم أو كسرهم.

ولم تنسَ أن تلفتَ الأميرَ إلى شعبِهِ الذي “فيه مَنْ يعيشُ في الأكواخِ الموبوءةِ، متسربلًا بأسمالٍ باليةٍ، جائعًا، محتاجًا، فقيرًا إلى الخبزِ أو المأوى أو الحنانِ أو الكرامةِ، أو إليها كلِّها مجتمعةً”، وذلك بعد أن قارنَتْ حياتها- قبل القصر وبعده- بحياة الشعب مبدِعًا ومهمَلًا، أو بسيطًا فقيرًا لا يجد لقمةً يأكلها، محذِّرةً المتنمِّرَ العابثَ أن (مملكة السَّلام) يمكن أن تتحول- كما كل الممالكِ في التّاريخ القديم والحديث- إلى نقيضِها، إذ ليسَتْ سوى مملكة تقبعُ على فوهةِ بركانِ ظلمٍ سينفجرُ يومًا ويحرقُ الأخضرَ واليابسَ، فتصبحَ (مملكةَ الحربِ)” بسبب إهمالهِ الذي لا يقل ظلمُهُ عن الظلم المُتَعارَف عليه.

وحمَّلت الكاتبة (إيمان  بقاعي) نصَّها السَّردي الكثيرَ من الرَّسائل المهمة التي تشكل شخصية الطِّفل القارئ، أو النَّاشئ،  فاتحة أمامه حقولًا  مجتمعيَّةً  ونفسية وبيئية  وجدلية من خلال الأقوال والأفعال، مثل “الجاذبية” التي هي “أهمُّ من الجمالِ”، رادَّةً على تنمّرِهِ بعد تأمُّل وجهها الذي يكادُ يخلو من الجمال، بينما ينبض بـ“الجاذبية”.

كما أن الكاتبة أشارت إلى أن  الصَّدَقة لا تصبح قانونًا، والتَّفاعل الإيجابي بين النَّاس لما فيه خيرهم.  فلقد  استطاعت البطلة تحويل الأمير من طائش غير مُهْتَم إلى حكيم يدير شؤون مملكته إذ في النِّهاية، استمع إلى نبضِ رعيته، وأمر ببناء  المدارس والمعامل والمشافي وتقديم جوائزَ للمبدعين،  وشهد أنه- مع الوعي- جدد نفسه وتجدد معه وكأنه يولد من جديد كما ولدت هي الأخرى من جديد بعد أن اختارت أن ترحل إلى مستقبلٍ أفضل، فحصل ما أرادته  وبلغت وشعبَها مناها.

وكان للحبِّ مسافات ومساحات انطلق من حبها لبيتِها العتيق وجيرانها وعَمَلة القصر حتى وصل للأمير شخصيًّا، فأحبته انطلاقًا من حبها لكل المحيطين بها، والساعية إلى مساعدتهم  على أرفع المستويات. وكان الجميع يحبها لجاذبيتها وثقافتها وإلمامها بمشاكل النّاس ومشاغلهم، حتى صارتْ تقدم حلولًا “حكيمة” لهم كان مرجعُها الكمَّ الهائل من الكتب التي طالعتها في بيتِها والقصر أيضًا وقرأتها حتى إنَّ  فكرة الرحلة كانت من تأثير قصة خيالية قرأتها.

وهي دعوةٌ للقارئ- الطفل، أو النّاشئ أنَّ  للمطالعة فوائد عدة، أولها: أنها خير صديق، وثانيها: أنها خير سلوى “في ليالي الشِّتاء الطويلة ومساءات الصَّيف الحارة”، وآخرها: أنها تساعدنا على حل المعضلات والمشاكل التي تعترض طريقنا وقد تتشابه مع مشاكل اعترضت أبطال أو بطلات القصص التي نطالعها فيما يُعرَفُ بـ”العلاج بالدراما”؛ فقصة (خَشَبُونا) للكاتبة (إيمان بقاعي) تحملك إلى عالم خيالي محض، عالم القصور والملوك التي يتفاعل معها الطِّفل تفاعلًا إيجابيًّا إذ استطاعت البطلة من خلاله إحداث الفرق في علاقتها بالأمير، تمامًا كما استطاع حزنُها أن يصل إلى كل الأشجار والعصافير والنحل والعناكب والكلاب والقطط، مع تفاصيل رحلة البحث عن المأوى، وأهمية الحصول على نقود لقاء العمل الجادّ، رافضة العطاء المجاني والصَّدَقة، وهي القائلة: “كل ما يُعطى مجانًا، ينفذ   بسرعة”، وغيرها من التفاصيل التي  تشدك من أول القصة إلى آخرها.

26\5\2024

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى