أحداثجاليريشخصيات

الحرفية وحكاوي “الحبوبات” في أعمال التشكيلي السوداني حاتم فاضلابي

بقلم الفنان والناقد كمال هاشم

الفنان التشكيلي السوداني حاتم فاضلابي

تستوقفنا تجربة الفنان التشكيلي السوداني حاتم فاضلابي لكونها مشروعًا متفردًا يزاوج بين الحرفة العالية والخيال الشعبي المتوارث، لتبدو لوحاته كأنها امتداد حيّ لحكايات الحبوبات (الجدات) في ليالي القرى المقمرة، تلك الحكايات التي تمزج بين الحكمة الشعبية والأسطورة، بين الواقع والرمز. فالفنان يشيّد عالمه البصري على بنية قرافيكية متينة تتناوب فيها الصرامة مع العذوبة، حيث يتجاور الخط والتنقيط في حوار داخلي يذكّر بإيقاع الحكاية حين تُروى على مهل، وتترك وراءها أصداءً أبعد من حدود المشهد.

يعلن فاضلابي انتماءه للحرفة بصرامة، إذ يرى اللوحة “صنعة” قبل أن تكون انفعالًا، وهو بهذا يحررها من حدود العاطفة العابرة ليمنحها مقامًا أشبه بالوثيقة البصرية. كل لوحة عنده تتحول إلى سجل لطقوس الحياة اليومية، وإلى مرآة تستعيد تفاصيل الطفولة، ولكنها طفولة ممتدة ومشحونة بعيون الآخرين وتجاربهم. في خلفيات أعماله يطل أثر النحت جليًا، إذ يبرز تجسيم الشخوص وبناء الظل والنور كما لو كنا أمام “ريليفات” منحوتة تذوب في سطح الورق أو القماش. هذا الحس النحتي يمنح اللوحة قوة بصرية صارمة، لكنها في الوقت نفسه مطعّمة بشاعرية حسية تليّن زواياها وتفتحها على التأمل.
وفي هذه البنية، لا تظهر العلامات التشكيلية كتفاصيل زخرفية، إذ يقتحم التنقيط والخطوط المتقاطعة بنية التكوين ليولدا توترًا تعبيريًا مضاعفًا. بذلك تصبح اللوحة فضاءً للأسئلة أكثر من كونها إجابات، فضاءً يستدعي القلق والتأويل، ويضع المتلقي في مواجهة ذاته وهويته، كما يضع السوداني أمام مرآة تعدديته وحلمه وصراعه المستمر.
وحين ينتقل فاضلابي إلى فضاء اللون، ينكسر قيد الأبيض والأسود، كأنه عاد تائبا ومشتاقا الى اللون بعد طول خصام, ليتسع المشهد إلى حقول الأزرق والأخضر وألوان الطيف كلها. هنا، تتجسد الكائنات وكأنها تستدعي عودة أبدية إلى منابع الروح الأولى. تلوح العلامات الخصوبية والانبعاثية عبر نباتات مغروسة أو أجساد متوهجة أو كتل لونية أشبه بزجاج يتفتت ليعيد بناء ذاته. إنها مشاهد لا تكتفي بالتصوير، بل تحرض العين والوجدان على الحركة، على الثورة ضد السكون.
تغدو أعمال فاضلابي في النهاية سردية كبرى للذات السودانية، متحررة من قيود الزمن والمكان، عابرة للتقليد دون أن تنكره. إننا أمام فنان يحول الحكاية الشعبية إلى بنية تشكيلية حديثة، ويجعل من الحرفة بوابة إلى الشعرية، ومن الرسم أداة لاستنطاق الذاكرة الجمعية، في رحلة بصرية تقف عند تخوم الحلم وتفتحه على احتمالات لا تنتهي.
كمال هاشم. سبتمبر 2025

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى