جاليريشخصيات

عوض أبو صلاح: حين يُورث الشعر لونا وتصير اللوحة قصيدة

بقلم الناقد والفنان كمال هاشم

الفنان التشكيلي السوداني عوض أبو صلاح

تجربة الفنان التشكيلي السوداني عوض أبوصلاح تنفتح على أفق ثري، حيث يتجاور اللون مع الروح الإنسانية في حوار صامت وصاخب في آنٍ معا. منذ تخرجه في كلية الفنون الجميلة بجامعة السودان للعلوم والتكنولوجيا، انطلق في رحلة فنية عبر الخرطوم ثم السعودية، حيث راكم خبرات متجددة وحاز جوائز عديدة، لتجد أعماله مكانها في مجموعات عامة وخاصة داخل المملكة وخارجها. تلك الرحلة الجغرافية والوجدانية شكّلت ملامح تجربته، وأكسبت رؤيته مرونةً جعلته يوسّع من أدواته التعبيرية، ويغامر بطرقٍ جديدة في البحث عن المعنى.

بداياته ارتبطت بالحروفية، حيث لم ينظر إلى الحرف كزخرفة جامدة، بل كرمز حيّ يختزن شحنة من الذاكرة والعاطفة. كان الحرف عنده مفتاحًا لعوالم أرحب، سرعان ما قادته إلى التعبيرية والتجريد، حيث تذوب الخطوط والرموز في فضاء مفتوح على الأسئلة الوجودية. ومع هذا التحول، غدا اللون بطلًا متفردًا في تجربته، ليس مجرد أداة، بل كائن حيّ يشاركه الإبداع. يصف الفنان علاقته باللون بأنها “مصالحة”، وفيها يصبح الأحمر لغة غضبٍ وحب، والأزرق عمقًا للتأمل، فيما تنبض الترابيات بإيقاعات الحياة اليومية. بهذا التداخل، يفتح اللون أبواب الحكاية دون كلمات، ويجعل اللوحة أقرب إلى اعتراف داخلي أو مرآة صامتة.
أما العنصر الإنساني في أعماله، فيطل عبر وجوه مختزلة وأجساد غير مكتملة، لا تسعى إلى تمثيل شخص بعينه بقدر ما ترمز إلى الوجود الإنساني ذاته. شخوصه بلا ملامح واضحة لكنها مثقلة بالمعنى، تتحرك بين الفراغ والامتلاء، وتستحضر أسئلة الضياع والبحث والانتماء. هنا تتجاوز اللوحة حدود المكان والزمان، لتصير خطابًا كونيًا عن قلق الإنسان وأحلامه وتوقه إلى الحرية.
ولعل جذوة هذا الخيال وعمق هذا الحس الجمالي لا تنفصل عن إرث شعري أصيل ورثه الفنان عن والده الشاعر الكبير صالح عبدالسيد “أبوصلاح”، أحد أبرز شعراء الحقيبة في السودان، وصاحب القصائد التي خلدت في الذاكرة الجمعية مثل “جافي المنام” التي أعجب بها أمير الشعراء أحمد شوقي لما فيها من استخدام بديع لصيغة التصغير. هناك، حيث كان الأب يسكب الليل وجعًا وهو يبوح: “جافي المنام لاسعني حي… أم زاد غرام ضاوي المحي”، جاءت لوحات الابن كمساحات مشبعة بالقلق ذاته، حيث تتجاور الألوان مثل سهام الشوق التي وصفها الشاعر. وحين كان الأب يتغنى بـ “عينك متل عين الجدي… السارحة بي شويدن الربي”، كان الابن يرسم عيونًا غامضة، بلا تفاصيل دقيقة، لكنها مثقلة بالدهشة والتساؤل.
بهذا التواشج بين الإرث الشعري والبحث البصري، بين قصيدة مغناة ولوحة تتنفس اللون، يرسّخ عوض أبوصلاح حضوره كفنان لا يكتفي بالتقليد أو التكرار، بل ينحت تجربته بصدق، ويسعى لأن يجعل من اللون مرآة للروح، ومن اللوحة جسرًا يصل الإنسان بذاته وبالآخرين.
كمال هاشم. سبتمبر 2025

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى