أحداثأدبإعلامشخصيات

هل كان يأسا ” الصرخة الأولى “

بقلم الكاتبة نجوى الزهار (من كتابها: ابتسامة بيضاء)

عندما غادرت رحم أمي ( غلافي الأول ) ،  كان بانتظاري العديد من الأغلفة ، فانتقلت من دفء الى دفء ، تلونت ، تلونت بالوردي ألوان تلك الوجوه الفرحة المستبشرة ، تلونت بالأزرق ألوان ذاك البيت المتناظر ، همسات بيضاء ، لحاف أخضر ، الشمس هي التي تطالعنا من مختلف الزوايا .

لعلها هي التي كانت تدور حولنا، نحن جميعا في  المركز ، من غاب ومن حضر .

الحديث ممتد متواصل من الأمس البعيد الى الغد المتجدد .

تقول جدتي من الصباح :

الدنيا هنا بأسرها لدى كل  الناس ، أليست الدنيا ارضا وسماء ؟ .

لم لا يكون الاكتفاء ؟

ثم أصبحت أرى ما ليس عندي ، لأرى سجينة اسيرة داخل فكري . أدق وأمعن في الدق لكي تذوب معاني الشروق في مياهي الراكدة .

” أسقط غلافا “

أصبحت أشتهي ما عند غيري ، لأغدو سجينة اسيرة داخل بيتي .أغلق النوافذ ، أسدل الستائر فالضوء مرتد .

” أسقط غلافا “

ثم أصبحت أنتهك حياتي ، فغاب الايمان عن قلبي …

” سقطت كل أغلفتي “

فقدت عيوني المقدرة على التقاط بذور الشمس الأزلية ، فبات الشتاء باردا قاسيا ، الخريف متناثرا ضائعا . أما الربيع فلا يملك الا صفة الاستعجال .

جسدي غربال منهك لا يهتز الا لدفع متوال من البكاء .

” شرقت بالدمع حتى كاد يشرق بي ” .

الشاعر المتنبي

بداخلي دوائر مائية تتسع وتتسع بلا بؤرة ، بلا مركز .ارادتي كبة من الصوف متشابكة الخيوط ، لا تعرف لها بداية ؟

حدود وحراس  لكل جزء مني ، تناثرت بل بالأحرى تبعثرت بين السرير والسرير .

” حزني ثقيل فادح هذا المساء

كأنه عذاب  مصفدين من السعير

حزني غريب الأبوين ”    

الشاعر صلاح عبد الصبور

هذا الذي عندي ، يدفشني ، يبددني فها أنا أنتقي آلام الشعراء ولا أقرأ الشعر .

وماذا بعد ؟ لم كل هذا ؟ لم الكتابة عن ذاك الذي حل بي ؟ .

لا أقول السبب وأكتفي بالمحصول …

أسمع التساؤل ، أشعر بالتململ ، بل من المؤكد القول ما جدوى ما كتبت ان لم نعرف السبب … ما قلت ان لم تشرحي أكثر ….

عند الكتابة يندفع كل ما بداخلنا الى الأعلى ، نصبح كأننا ثوب مقلوب يحتاج الى اعادة … للكلام  رائحة ، طعم ، قوة اندفاع ، قوى استقبال . أما الحرف فيبدو في بعض الأحيان عاجزا عن استقبال تردد اليد التي تخط … فبعض الحروف تريد التحليق عاليا مثل طير يخط السماء ولا يترك أثرا . ثمة حروف يعوزها الاطمئنان في الأمكنة التي وضعت فيها مهما طال المقام ، ولكن سأحاول … سأكون ذاتا تراقب ذاتها الأحزان …

قليلا في الوقت …. فهذا التشويش يغمرني ….

ماذا قلت

أقول : ان النائم لا يعي نومه ، يعي فقط يقظته ، وأنا أيضا لم أع أنني كنت  النهر الى أن تحولت الى بحيرة راكدة .

هل كان تحولي سريعا ؟

هل  كان تحولي بطيئا ؟

أدري أنني ألقيت في مياه نهري الكثير . وأدري أيضا أنه ألقي رغما عني الكثير الكثير . ولكنه النهر المتدفق الجاري . لا تعوز الحكمة النهر ، فالتواصل والتآلف الدائم بين المنبع والمصب . يفيض النهر ويبعد بعيدا ولكنه يظل عاشقا لمجراه .

قالت لي :

خير وبركة . خير وبركة . ثم مأدبة للطعام في هذا الحي . أظن أنها مأدبة غذاء . فالطعام ما يزال يحافظ على شكله ومحتواه ، ثم عاودت الاستمرار في البحث والتنقيب في مكب النفايات ،لا تنقطع عن عملها الا لإرضاع طفلها ،تحمله قليلا ثم تعاود وضعه بالقرب من المكب.

كيف تحول مكب النفايات الى غايات مختلفة ؟ .

هل كان تحوله سريعا ؟

هل كان تحوله بطيئا ؟

مازالت بعض الضحكات تتجول في الأعماق . فلقد كان هذا المكب بيتا عائليا للقطط…. أحاديث تدور ، البعض يقف على أعلى مكان للمكب . البعض في الداخل يقفز عاليا اذا ما رمي عليه ما يفوق طاقة احتماله. يزداد العدد أو ينقص تبعا لمنطق الفصول .

مر زمن تزامنت فيه الأيدي ، كل الأيدي …. الى أن حسم موضوع الصراع هذا ، فتراجعت القطط عن مكان لم يفقد فقط خصوصيته بل محتوياته ……. أيضا

حزن واحد يكفي …..جوع واحد يكفي

أصبح الكلام أسود ، أصبحت الرؤيا سوداء ، للانكسار شظايا ، هل كان أحد بمعزل عنها ؟ . حاولت الوصول الى المنبع ، ثم حاولت أن أنبش القاع ، ثم حاولت أن أستقر في المجرى ، ثم حاولت وحاولت الى أن أصبحت مثلما أصبحت  ” نمور زكريا تامر في اليوم العاشر ” .

شيئا فشيئا تراخى كل ما بداخلي … الى أن فقدت النزعة الحيوية لمواصلة العيش .

الحرائق

” عندما تندلع الحرائق في الغابات ثمة نوع نادر من الأوركيدا ، تعاود الظهور مجددا “

​​​​​​​​مجلة العربي الكويتية

ترك المطر المنازل ، منازل السحاب ، فاقتربت خطواته ، لتصافح وجه الصباح .

” أمــــــا أنـــــــــــــــــــــا “

دق متواصل على نافذتي ، نداء سأحاول أن لا أسمعه ، ولكنه المطر ، المطر الذي تنبت به ومعه الأحاسيس  . واقعة أنا لا محالة في بحيرة الذكريات . صوت المزاريب يصدح في أعماقي ، الضحكات تنمو في داخلي ، نحن الأطفال ، أطفال حارتنا ، كنا نتسابق في وضع رؤوسنا تحت المزاريب ، احساس بالرطوبة الايجابية نركض به الى الأحضان …

تنظر لي مليا جدتي ثم تبتسم ، هكذا فعل بك المطر يا صغيرتي ؟

كانت الأسئلة ليست بحاجة الى جواب ….

كأس مع جوز هند ، كستناء تشوى على مدفأة حطب ،أشربه على مهل، وخيالي يدور مع من بقي خارجا من الأطفال …  للشتاء طقوسه ، طعمه ، أغوص أكثر وأكثر .

ثم تأتي رطوبة العفن لاسترجاعي على ما أنا عليه .

ولكن المطر يا اصدقائي … حسبت حساب كل شيء الا هذا، أسدلت الستائر …أغلقت النوافذ … النور محبوس مكبل … سأحاول مجددا الاحتماء بغطائي ، بفراشي ، فهو ملاذي واستجابتي لما أعاني ، وماذا بعد … لقد تبلل به داخلي ….  داخلي به ظمأ، داخلي ذو قنوات مسدودة .

” ثمة محاولة “

يتحرك الجسد مني باتجاه نافذتي ، يدي المتعبة تزيح الستائر ، بل تفتح النوافذ … يدي المرتجفة تمتد خارجا لملاقاته .

عندما يكون التلميذ جاهزا يحضر المعلم

ترتسم على يدي قطرات المطر , لكل منها محتوى , رغبة , البعض يتمدد , البعض يتلاشى … المزاريب غير المرئية … رحلة من السماء الى الاسطح , الى المزاريب , الى النهر , ثم العودة مجددا الى السحاب.

قناديل من ضوء بيتي , قناديل من الضوء تتدلى من فضاء لا حدود له .

هل خرجت أم أنني وجدت ذاتي خارجا؟

هل أنا التي رأيت ؟ أم أنني كنت المرئية… ؟

كؤوس من نور … استقرت على نبات أخضر صغير … متناه في الصغر …

نبات أخضر يشق المسافة الضيقة بين بلاط المدخل ليصافح وجه الحياة … عملية تفتح وازدهار , لم يدع ذاته تقف في طريقه.

يوم ميلاده ربما سيكون يوم مغادرته , فطريقه هو طريق أقدام مستعجلة لا تبالي أين تدوس , فهو القادر على المتعة , القادر على الالم.

حوار يطوف داخل فكري , مياه تطوف بأعماقي .

ثمة انبعاث يبدأ بطريقة خفيضة وقدسية , ثمة انبعاث لنغمة الاجداد , خلايا الدفء تتحرك في مياهي , لم أعد أسيرة البدن , فلأصرخ صرختي الثانية , لأصرخ فوق كل ما مضى , فها أنا أعاود الظهور مجددا نبتة خضراء متوحدة مع ضفاف نهر متجدد .

ماذا قالت جدتي :

الدنيا بأسرها لدينا , الدنيا هنا سماء وأرض.

ماذا تقولون ؟

لنحتفل بالحياة … فقط … لكونها الحياة .
زمردة
هذا الذي أسمعه، هو مزيج غير متجانس من قرع متواصل على باب منزلي ، وأحرف تتناغم من مصدر أنثوي …..
افتحي الباب …. افتحي الباب ….
ما ان أبادر الى فتحه ، حتى تقول لي : جارتي الحبيبة غادري المنزل بسرعة ، أخاف عليك ….  لم أستطع النزول قبل اخبارك . ثمة هزة أرضية  أخرى قادمة …. ثم بما يشبه الأناشيد  المدرسية ، أنشدت لي : الجار للجار .
الصمت الذي يحوي بداخلي كل معاني الانبهار ، التساؤل جعلها تعتقد أنني ما زلت بحالة صدمة من الهزة الأرضية الصباحية .
ما بك ؟ اهدئي وانزلي ….
لم تعلم أنني كنت أزيل غلالة وراء غلالة  . كل غلالة كانت تؤكد لي صحة توقعاتي ….لكنها قطعت كل هذا لتقول : أنا زمردة …. زمردة بصوت ذي أجراس متألقة …. ثم بما يشبه الهمس الثقيل …. أنا جارتك ام ابراهيم .
كيف أصبحت أم ابراهيم يا زمردة …..
لم أتمكن يوما من رؤية وجهك الجميل هذا بفعل الانحناءات والانكسارات في محياك . لم أتمكن يوما من سماع أجراسك هذه ولطالما حاولت أن أحظى بصباح خير أو مساء خير …. فقط بضع تمتمات تفيد بأن للهداية طريقا معروفا لمن يريد .
أم ابراهيم …. معذرة يا زمردة .
كيف استطعت بين هزة أرضية وأخرى أن تصبحي بستان ألوان في ملابسك هذه …. هذا الشال الأخضر الذي يحيط بالكتفين … هل كان مهملا في خزائنك ؟  من أين كل هذا السواد الذي كان يغلفك تغليفا محكما ؟ …. زمردة تودعني بل بالأحرى تتهادى على الدرج وهي تقول لي أو بالأحرى انها تؤكد لنفسها : لن أنتظر أحدا …. سأكون لوحدي في الخارج .
أقف على شرفة منزلي … لا أنوي النزول . لأرى أغلب الجيران في الخارج …. أرى صخور خلافاتهم قد بدأت تذوب على نار أحاديثهم . رائحة ود زكية بدأت تمشي على قدميها بين ابراهيم ، جورج ، هيثم ، تمارا ، جوزيف ، تامر ، مؤمن ، سهى ، سوزان , سعيد ……
فناجين من القهوة على سور المنزل … تمتد يد زمردة لفنجان ثم يد أخرى تمتد الى الفنجان الآخر …. تطول رحلة الفناجين بين اليد والسور تتابعها نظراتي الى الحد المستطاع …. يتابعها قلبي بلا حدود ، قلبي يتابع نبضات نابضة ، ثم ابتسامات مبتسمة …. قلبي يتابع زمردة ….
زمردة أنت فوار قد جمل الدنيا . الأرض تتابع دورانها ….
وما زال للحديث بقية .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى