أحداثأدبشخصيات

عبد الناصر يا رمانة … ذكريات من الشام!

بقلم الكاتبة نجوى الزهار (من كتابها: ابتسامة بيضاء)

العدوان الثلاثي

زمن قصير ، يفصل بين هذا الحديث وذاك الحدث الراسخ ( العدوان الثلاثي على مصر العربية 1956 ) شعرت بذاتي قد كبرت .  أقف أمام البائع أسمع الأناشيد ، الله أكبر ألله أكبر والله زمن يا سلاحي. أسمعها مثلما يسمعها ، أشعر مثلما يشعر . لم  يعد يهمه ان طالت تنانيري أم قصرت .

امتدت المساحات .زالت الأبواب ، أصبح بيتنا هو الحارة والحارة هي بيتنا . موسيقى صحون الفول أصبحت هادئة متوازنة . فذاك  الضجيج الذي كان يسمع كل صباح عبر الطلبات الجائعة المستعجلة أفسح المجال لأصوات الراديو  ينبئ بالأخبار عما يجري في مصر ( بضع من الغارات على مدينة دمشق ) في ذاك الزمن  استعدت جدي، ولم أعد بحاجة للتحديق بصورته، فلقد كان الهواء مشبعا نديا به 

يا جدي …. يا ماستي ….

وتلك التسميات الماضي الحاضر المستقبل ما هي ؟  وكيف علينا أن نفهمها أولا ، لنتحقق من أنها للماضي الذي لا يعود ؟ أم أنها للمستقبل الآتي سواء أكنا شاهدين عليه من قرب أو بعد . ما زالت يد خالتي تمسك بيدي ونحن  نأخذ موقفا لنا بين الجموع التي جاءت للاحتفال معا بعيد الوحدة ( 1958 ) . عبد الناصر يا رمانة ، دمشق فتحت كل الخزائن ،ارتدت أجمل الأثواب …. سألت خالتي ما معنى كلمة الشعب ؟ ألسنا نحن الشعب الذي يتحدثون عنه ؟نعم قالت خالتي …… قلت لها : أي أننا نحن نستطيع أن نقرر أن نحتفل أو لا نحتفل . لست بالمعجبة بهذه الاحتفالات التي تخسرنا الكثير من دروسنا ؟.

جمال عبد الناصر

لم تحب خالتي المفتونة بالزهور والاضواء ذاك الذي لم يمس جمال عبد الناصر الذي نما حبي له بعدما سمعت جدتي تروي تلك القصة : 

ان قريبات جدتي اللواتي ينتمين الى عائلات الشام العريقة قد تضررن بفعل التأميم الزراعي . فقد قررن الذهاب الى قصر الضيافة حيث يقيم جمال عبد الناصر لتقديم شكوى . وأثناء وقوفهن خارجا بانتظاره مر الرئيس ليشاهدهن . تأثر جدا من هذا الموقف فدعاهن الى تناول الغداء معه . كانت البساطة تتجلى في الحديث والطعام مما دعا أولئك السيدات للاقتناع بجمال عبد الناصر ونزاهته واخلاصه . وان لم يقتنعن بجدوى التأميم ؟.  وكما قيلليست الموسيقى التي تؤلف ، وانما الموسيقار نفسه ” . لعل الأجمل يظل مستعصيا عن الافصاح .

يا خالتي اتركي يدي

فهذا النغم الذي يسري يرفعني عن الأرض . وها أنا أقف على تلة واسعة مشرقة ، أرى فيها الوطن العربي بامتداداته . تعرفت على ذلك الاحساس الواسع بالانتماء نحن معا أنا عربية أنت عربية أنت عربي …. ستكون لنا بوابات تحمينا من التدخل والفقر والجهلكان فرحي فرح طفلة ، أما حزني فكان حزن امرأة .  

كان فرحي فرح طفلة ما يزال طوق الياسمين ينتظرها كل صباح . أما حزني فحزن امرأة لم تغادر تلك التلة بعد . فلقد أحببت أن  أقف عليها يحيط بي أطفالي . ولكن قشرة الرمان لم تقو على احتواء حباتها .

وكم قيل لي كفي يا امرأة عن ارضاع طفلك حليبا ممزوجا بهذا الكم من القهر والحزن . اصفح عني يا صغيري . اصفح عني ذاك الطعم  الذي تذوقته ولسوف يأتي يوم تعرف فيه مثلما عرفت أن الوطن هو أيضا ابن وأم وأب…… وآه…. أه….. يا جدي .

أم العبد

مدينة لك يا ندى  ، مدينة أنا للبامية ( البعل ) . ( البعل : الخضروات التي تعتمد في ريها على مياه الأمطار فقط . وهي تعني أنها الأفضل ) .

دقت على بابي طفلة لا تتجاوز السابعة من عمرهااسمي ندى، أرجوك أن تشتري هذه البامية  ، انها بامية بعل . هي لحظات من الحوار . كانت خلالها ندى في منزلي تصدر أوامرها لأطفالي  وتعدهم باللعب خارجا اذا ما نفذوا أوامرها . هي  ساعات لاحقا . كانت عائلة ندى عائلة أم العبد فقد انتقلت للسكن في منزل لنا صغير مجاور لمنزلنا ( كنا نسكن مزرعة ). عائلة فلسطينية من  نور شمس أم العبد ابو العبد نهى ندى تهاني تغريد العبد محمد محمود نصر ناصر زوجة العبد اولاد العبد . …….

كان الصباح جميلا بهم أصوات فرحة متألقة ، حركة لا تنتهيحبال طويلة تمتد بين الاشجار لنشر غسيلا متوهجا بالنظافة . ندى تنتقل بيني وبينهم الى أن جاءت عصرا ، تدعوني لشرب الشاي مع أم العبد . ذاك المنزل المتواضع، كيف تحول الى فراشة بيضاء بأيدي أم العبد . فرشات على الأرض مغطاة بقماش أبيض من البياض . طناجر ألومنيوم تلمع بأكثر مما أستطيع الوصف . النظافة تشع من كل شيء. الأطفال لا يدخلون بأحذيتهم. يغسلون الأيدي والأرجل خارجا .: يلتقون على الطعام بأيدي لا تعرف لغة التنافس من الحصول عليه . لو تعرفي يا أم العبد كم أعود الى منزلك هذا  عندما يجري الحديث غير المنصف. بين الذين يملكون ولا يملكون ، لأقول انني لا أجد ارستقراطية الا أرستقراطية أم العبد ، ولا أجد منزلا يمثل تلك الأرستقراطية الا منزل أم العبد. فكبرياء الروح هي التي تعكس على ما يحيط بنا ، وما تلك القصور الباذخة الا صفائح من ورق . لم تحاول ام العبد ابعاد ما تعاني من قلة الموارد ، بأحاديث عما كانت تملك في الماضي . لم تحاول اخفاء انه في تلك  الطنجرة التي تحتوي طعامهم قطعة لحم واحدة . الجذور كانت تمتلك الجذور التي جعلت لها مكانا واسعا رحبا ممتدا من فلسطين الى الأردن .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى