أحداثإعلامجاليريشخصياتلقاءات

حكايةُ الرَّجُلِ الذي أدركته الفلندة!

د. أشرف أبو اليزيد

ما ظنُّكم بمطعمٍ يُقدِّم شوربةَ دجاج، بشرط ألّا يستخدم (الشيف) أعضاءَ الدجاجة، حتى لا تَبدرَ منها أيةُ إيحاءاتٍ جنسية، لأنَّ (الجنسَ ممنوع)، وأن يتخلَّص من رأسها وجناحيها، فلا تُفكِّر أو تُحلِّق بمذاق التحرُّر المرفوض سياسيًّا والمنبوذ دينيًّا. فالحديث في المطعم لا يجب أن يتطرَّق، تلميحًا أو تصريحًا، لأيٍّ من شؤون السياسة أو أمور الدين، وألّا يضع صدرَها (الدجاجة) عاريًا في الماء الساخن، فهذا إثمٌ قد تعترض عليه الجمعيات الحقوقية.

الخلاصة: أن تُقدَّم شوربةُ دجاج… بلا دجاج!

كان ذلك هو التحدِّي أمام رجلِ المستحيل الإعلامي المتمرِّس حسام السكري، وقد ورَّط مشاهديه في العرض الثاني من اللعبة التي بدأها، وهو يبدأ سيرةً جديدة، بعد أن اختبر السَّيرَ جميعًا، ووصل إلى ذُراها، لكنه كان يترك ذلك ليبدأ من جديد، ويتحدَّى نفسه مجدَّدًا.

في عقوده العملية السابقة، كان حسام السكري يخاطب جمهور الناس من وراء حجاب؛ سواء عبر الشاشة الفضية من استوديو تلفزيوني في مكانٍ ما من عاصمة الضباب أو مدينة الألف مئذنة، أو في فضاءٍ أزرق لا يتواصل معه أحدٌ فيه إلا من خلال سُحُب سماواته الافتراضية. لكنه الآن يكسر تلك الحواجز كلَّها، ليواجه جمهورًا حيًّا، وجهًا لوجه، ويصعد المسرح: مذيعًا، وكاتبًا، وممثِّلًا، ومخرجًا، ومنتجًا. ولو كان وحيدًا لقام أيضًا بدور الجمهور.

إنه رجلُ التحدِّيات، ولكن أن يقدِّم (ستاند أب كوميدي) بلا جنس أو سياسة أو دين، يعني أن عليه تقديم البديل، أو استحضار بدائلَ ثلاثة لهذه الغيابات الثلاثية.

باختصار، كان على السكري أن يبتكر الاستاند أب السكري الخاص به.

اختيارُ (التجربة الفنلندية) الموفَّق اعتمد على الإدهـاش. صحيح أن ذلك لم يعد بعيدًا عن المخيِّلة، لكن استحضار فنلندا وناسها وزمانها صاحبه تأسيسُ معجمٍ كبير، وموسوعةٍ دسمة، لا شكَّ أن المتلقِّي بعدها صار أكثر معرفة. وهو هنا يؤسِّس لخاصيةٍ وخصوصية، وسيكون جمهور ستاند أب السكري متوقِّعًا لجرعةٍ معرفية لا يجب أن تقلَّ عن طرق عوالم اللغة والثقافة وأدب الرحلة.

ظهر حسام السكري صورةً جادَّةً للرَّجُلِ الذي أدركته الفلندة٫ وأحسب أنه في عرضه القادم قد يخصِّص وقتًا أطول لشخصياتٍ بعينها، وربما يطبع لنا بعضَ الرسوم الكاريكاتورية التي نشرها، أو يعرض لنا قبسًا من الصور التي أشار إليها.

أمّا البديل السكري الثاني فهو تقديمُ أصواتٍ (جديدة). أعترف أنني لم أستمتع بالمادتين اللتين ظهرتا في هذه الأمسية.
صحيح أنني أكتب شعرًا فصيحًا، لكنني أصدرت ديوانًا بالعامية عام 1989، ولم أستسغ النصوصَ العامية التي طرقت أذنيَّ، رغم ما أسبغه قائلُها عليها من قيمةٍ مجتمعية وعاطفية. وربما يكون ذلك عيبًا فيَّ؛ لأنني منفصل عن المفردات التي أصبحت سِمَةً لفئةٍ قد تجد قبولًا في الشارع، لا على خشبة مسرح.

ونأتي إلى زائر الهند، الذي لم يكن أقلَّ وطأة، ويبدو أنه فقد حاسَّة الفكاهة في الطريق، أو ظنَّ أن الرحلة اكتشافٌ للآخر وحسب، بينما هي ـ في ظنِّي ـ إعادةُ اكتشافٍ للذات. ومسألة الطعام الحار قد تكون صورةً نمطية، لكن انظروا اليوم إلى القاهرة وحدها، وانتشار المطاعم الهندية فيها، وانتشار التوابل الهندية التي تستخدمها ربَّات البيوت وبرامج الطعام في تحضير الوجبات: أليس ذلك تقبُّلًا لثقافة الطعام؟
الهند اليوم عُرِفت بلدًا سياحيًّا، وأصبحت لها مائدةٌ يستسيغها العالم.

لم يكن كسرُ الحاجز بين حسام السكري وجمهوره فيما يقوله على المسرح وحسب، بل جاء البديل الثالث في إنشاء حوارٍ بين الجمهور الحي والجمهور الافتراضي الذي كان يراسله أو يعلِّق عليه. وهو ما يؤسِّس لتيارٍ جديد في الستاند أب كوميدي، ليس بإعادة تدوير الوسائط الاجتماعية، وإنما بخلق فضاءٍ تشاركيٍّ جديد، يجعل من (العرض) كائنًا حيًّا، لا ينتهي بإسدال الستار، بل يتواصل عبر فضاءاتٍ جديدة.

خلق ستاند أب كوميدي السكري أجواءً حيَّة يفتقدها جمهور القاهرة، وربما يشجِّع العرضُ الناجح تأسيسَ تيارٍ جديد لهذا الفن الشامل، الذي لا يقدِّمه إلا فنانٌ بجرأة السكري، وثقافته، وخبرته.

سيلفي ما بعد العرض: حسام السكري وأشرف أبو اليزيد

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى