
من أجمل اللحظات التي عشتها، كانت زيارتي لمدينة بيشيليه الإيطالية، حيث ألقيت قصائدي في مهرجان شعوب البحر الأبيض المتوسط، وسجلت هذه الرحلة في أحد رحلاتي المنشورة بمجلة (العربي). . لقد منحتني هذه المدينة الإيطالية الجنوبية نَفَسًا متوسطيًا مشبعًا بالشغف والحنين، وراودني شعور بأنني في مدينة عربية. بل شاهدت رقصة “الدبكة” تؤديها فرقة أردنية، ولم يكن ذلك غريبًا البتّة.
فمنذ عام 1999، تفتخر مدينة بيشيليه بتوأمتها مع خان يونس، المدينة الفلسطينية الواقعة في جنوب قطاع غزة، والتي أصبحت اليوم رمزًا عالميًا للمعاناة تحت نير الاحتلال الإسرائيلي الوحشي.

وفي ذلك العام نفسه، التقت بعثة من بلدية بيشيليه الرئيس ياسر عرفات في قصره الرئاسي بغزة، ثم اجتمعت رسميًا بعمدة مدينة غزة. لم تكن هذه اللقاءات مجرد تعبير دبلوماسي، بل كانت شهادة حية على صلة عميقة ومتجذرة — رباط أخوة حقيقية مع الشعب الفلسطيني ونضاله الثابت من أجل بناء دولة حرة ذات سيادة.
ولتخليد هذه العلاقة التاريخية، أُطلق اسم خان يونس بمدينة بيشيليه على أحد شوارعها ، بالقرب من مسرح البحر الأبيض المتوسط، موطن المهرجان الأسطوري لشعوب المتوسط.
وكما كتب مؤخرًا السيد فرانشيسكو نابوليتانو، فقد كانت الإدارة البلدية في تلك الفترة تملك بُعد نظر نادرًا ما نجده اليوم، إذ تبنّت مبادئ السلام، والحوار الثقافي، والتضامن الإنساني، قبل أن تصبح مثل هذه المبادئ مجرد شعارات متداولة:
“تحدثنا عن المتوسط كبحر للسلام والضيافة، في وقت لم يكن أحد يجرؤ حتى على تخيل ذلك. بنينا جسورًا ثقافية مع العالم العربي، رغم سخرية اليمين السياسي واعتراضه، ذلك اليمين نفسه الذي يسعى اليوم حثيثًا لكسب ودّ الدول العربية.
لم تقتصر توأمتنا على فلسطين فحسب، بل امتدت إلى الفحيص في الأردن وطرطوس في سوريا، وكان عُمدتا المدينتين معنا هنا في بيشيليه. للأسف، من خلفونا في المسؤولية لم يملكوا ذات الرؤية ولا الحس الإنساني أو الشجاعة الكافية.
لقد حملنا اسم بيشيليه إلى العالم، من المغرب إلى العراق، ومن الأردن والإمارات إلى الكويت — حيث استضفنا وزراء وسفراء ورؤساء بلديات إلى جانب فنانين ومثقفين. ذلك كان أسمى من الثرثرة الجوفاء حول السياحة التي باتت تهيمن اليوم.
دولة واحدة فقط لم نرغب أبدًا في استقبالها: الدولة الإرهابية المسماة إسرائيل.”

ويواصل العمدة الشجاع فرانشيسكو نابوليتانو حديثه قائلًا:
“لهذا السبب لم أستطع التغيب عن التظاهرة المناصرة لفلسطين، التي أُقيمت يوم السبت الماضي في بيشيليه، على شارع خان يونس — ذلك الشارع الذي يحمل اسم المدينة التي شهدت في ذات اليوم مجزرة بشعة: تسعة أطفال من عائلة فلسطينية واحدة، قضوا تحت نيران الاحتلال الإسرائيلي.
آمل أن يتحلى العمدة الحالي لبيشيليه بالشجاعة والإيمان ليستعيد للمدينة دورها النشط كمنارة للسلام والتضامن — الدور الذي جسدته إداراتنا الأكثر استشرافًا في الماضي. ففي زمننا القاتم هذا، المليء بالتحديات، لا يليق إلا بسياسيين يرتقون إلى مستوى هذا العبء الأخلاقي الهائل.”
وأنا بدوري، أفخر بك أيها القائد الحقيقي، فرانشيسكو نابوليتانو. ما زلت أذكر لحظات لقائنا قبل أكثر من عقدين، وها أنت اليوم تُثبت أنك صوت الحقيقة الحي ورجل الثقافة الأصيل.

شكرًا لك، فرانشيسكو نابوليتانو!
تحيا بيشيليه! تحيا خان يونس! تحيا إيطاليا! تحيا فلسطين!