
إن شعر اليابان له بذرة في قلب الإنسان،
حيث تنبت حتى تنمو في أوراق الكلمات التي لا تُحصى.
كي نو تسورايوكي، كوكينواكاشو، المقدمة
ليلة الخريف
طويلة بالاسم فقط –
لم نفعل أكثر
من تبادل النظر،
وإذا بالفجر قد طلع.
أونو نو كوماتشي
أونو نو كوماتشي تُعَدّ من أعظم الشاعرات اليابانيات في عهد هييآن. وما تبقّى من أعمالها لم يحظَ، في مجمله، بترجمة دقيقة على يد فيلولوجيّ متخصّص في اللغة اليابانية وشعر ذلك العصر. وما سأفعله هنا هو تقديم لمحة سيرية عنها، وترجمة تقريبية لما بقي من شعرها، حتى تتكوّن لدى القارئ فكرة عن رقتها وعمقها.
هناك شعوب قليلة الحساسية تجاه الجمال كما هو الشعب الياباني. يتحدث كينكو يوشيدا في تسورِزورِغوسا (2) عن الجمال كما يُرى من خلال الإيحاء، واللاانتظام، والبساطة، والزوال، كما يوضح لنا الباحث دونالد كين. إن الزائلَ، وما يولّده من مسحة حزن تنبثق من هذه التجارب دون أن تكون حزنًا حقيقيًا في الجوهر، هو جزء من التوازن مع الطبيعة. وقد أظهر كينكو يوشيدا ذلك في النصوص الـ 243 التي تتكوّن منها تلك التحفة الأدبية، والتي شبّهها محرروها بالفرنسية، توميكو يوشيدا وتشارلز غروسْبوا، بمقالات ميشيل دي مونتين (3)
وكما تتساقط أوراق أشجار الكرز، يمضي الزمن في الثقافة اليابانية المشبعة بعمق بالبوذية الزِنّية. وفي ثقافة أخرى، كالصينية في القرن الحادي عشر، تُظهر لنا لي تشينغتشاو هذه الطبيعة الزائلة لكل شيء في قصيدة تسي رقيقة (4):
إن أراد صديق ما
أن يشاطرني اليوم كأس الخمر متأملين الزهور،
فليأتِ دون إبطاء.
من يدري، لعل الريح مع الفجر غدًا
تكنسها عن بكرة أبيها؟(5)
إن الجمال الناقص خيط لا يمكن الاستغناء عنه في الثقافة اليابانية. ويظهر ذلك بوضوح في أعمال شعراء وكاتبات اليوميات في حقبة هييآن، وفي أيامنا هذه في أعمال مثل تانِزاكي أو كاواباتا.
ومن الشاعرات اللواتي لم تُترجَم أعمالهن كاملة إلى الإسبانية، ولكنها لا تقل أهمية عن أي اسم آخر في ذلك العصر الذهبي من تاريخ الأدب الياباني، أونو نو كوماتشي 小野小町 (834؟ – ؟). كانت شاعرة بارزة في شعر واكا [6]، وتُعَدّ واحدة من أفضل ستة شعراء في هذا الجنس، المعروف باسم 六歌仙 (روكّاسين). وقد أُدرجت في كونكينشو، أول مجموعة شعرية يابانية جُمعت بأمر إمبراطوري سنة 905 [7]. وهي، في الواقع، المرأة الوحيدة التي ورد ذكرها في مقدمة كي نو تسورايوكي لتلك المجموعة، حيث اعترف بها كواحدة من “العباقرة الشعريين الستة” [8]. وقد تحدث عنها تسورايوكي قائلًا: “أونو نو كوماتشي أشبه بالأميرة سوتوري، ولكن في عصرنا. شعرها ضعيف، وإن كان مفرطًا في العاطفة، ويشبه سيدة نبيلة مصابة بمرض ما. ومع ذلك، أليست الهشاشة أمرًا طبيعيًا في شعر المرأة؟” [9]. ويضم كونكينشو 18 قصيدة لها.
يُرجَّح أن كوماتشي كانت إما من وصيفات البلاط ذوات الرتبة المنخفضة أو سيدة شرف في بلاط الإمبراطور نينميُو (833–850). ومكان ولادتها غير معروف، وإن كان الكثيرون ينسبونه إلى مدينة أكيتا، التي تعد اليوم من معالمها السياحية شخصية كوماتشي. وكانت مشهورة بجمالها الأخّاذ، حتى أصبحت نموذجًا للجمال في اليابان. وقد ساهمت هذه السمعة في نسج العديد من الأساطير حولها، كما مثّلت لاحقًا في مسرحيات نُو [10].
ومن بين تلك الأساطير أن أحد رجال البلاط ذوي المكانة الرفيعة، فوكاكوسا نو شوشو، أحبها. فقالت له إنه إذا جاء لزيارتها مئة ليلة متتالية، ستصبح عشيقته. لكنه أخفق في الليلة الأخيرة، فمرض حبًا بها، ومات، ما أحزن كوماتشي كثيرًا [11].
تركت أونو نو كوماتشي إرثًا شعريًا زاخرًا من قصائد الـ واكا، تنوعت موضوعاتها بين القلق، والوحدة، وزوال الأشياء، وهيام العشق؛ محاور أساسية في نتاجها، وركائز كبرى في جمالية الروح اليابانية.
تلك الثيمات كلّها تتكثّف في صورة الزائل، كما في تفتّح أزهار الكرز القصير العمر، أو في تأمل وجه القمر، أو في إصغاء الصمت الأبيض لثلجٍ يتساقط. وكانت كوماتشي، في شعرها، تشبّه حالات الحب بما هو عابر، بما هو متحوّل في الطبيعة.
إن شعر أونو نو كوماتشي شديد الذاتية، ملتهب العاطفة، معقّد البنية، وقد أسهم في تدشين عصر شعري جديد يتسم بالتعبير الشخصي، والتمكن الفني، وعمق الفلسفة والوجدان، كما جاء في مقدمة كتاب القمر الداكن بالحبر لجين هيرشفيلد وماريكو أراتاني (12).
وأكثر ما يطغى على شعر أونو نو كوماتشي هو الحب؛ فنجد القصائد التي تتحدث عن حبيب بعينه في الأرقام: 1، 2، 3، 4، 5، 6، 8، 10، 40. تقول في القصيدة رقم 1:
هل ظهر،
لأنني غفوتُ
وأفكاري معلقة به؟
لو كنتُ أدرك أنني أحلم،
لما استيقظتُ أبدًا.
أما عن الحب بوجه عام، فنجد له حضورًا في القصائد: 12، 16، 17، 23. وفي القصيدة 16 تقول:
أُرسلت سرًا إلى رجل مرَّ أمام ستار غرفتي:
هل ينبغي لعالم الهوى
أن ينتهي في الظلام،
دون أن يرى
شق السحاب
حيث يفيض نور القمر على السماء؟
هذا الهاجس، هاجس الحبيب والحب، نسمعه كذلك في همسات أرقى الأصوات الشعرية في عصرها. ولعل المرأة كانت، بلا ريب، الكاتبة الأعظم، التي لولاها لما عرفنا اليوم روعة عصر هييآن الباذخ ( 794–1185).
كانت نصوصهن تموج بالقصائد العاطفية، ومن بينهن السيدة سي شوناغون، التي أخذتنا في كتاب الوسادة [13] إلى أروقة البلاط وحياة الإمبراطورة ساداكُو في اليابان القرن العاشر، وهي تعدّد الحشرات والنباتات، ما يسرّ وما يسوء، الموضوعات الشعرية، والطرائف… فتقول:
حين ذهبتُ مرةً إلى معبد كيوميزو للاعتكاف، كنت أصغي بانفعال عميق إلى غناء الزيزان القوي، فجاءني رسول خاص برسالة من الإمبراطورة، مكتوبة على ورقة وردية من الصين:
عدَّ كل صدى لجرس المعبد
حين يدعو للصلاة
على سفح الجبل،
عندها ستعرف كم مرةً
يخفق قلبي بحبك.
… ولأنني نسيت أن أحضر الورق المناسب، كتبتُ جوابي على بتلة لوتس (14).
وبالروح ذاتها، لكن في أفق الرغبة ورقتها، تهمس أونو نو كوماتشي في القصيدتين 14 و19. أما القصيدة 19 فهي حوار مع راهب صادفته في الطريق:
هذه النزُل،
على طريق إيوانويه،
باردة المبيت…
أيها الراهب،
هل تُعيرني عباءتك؟
فيرد الراهب:
من تخلّوا عن الدنيا
لا يملكون سوى عباءة
من قماش خشن كالموس،
لكن، أليس في حجبها قسوة؟
فلننم معًا.
وكما هو طبيعي، فإن شاعرة الحب لا بد أن تتحدث أيضًا عن الفقد وانطفاء العاطفة. ففي القصائد 22 و27 و28 و29 نجد بعض ما أهدته إلى الخيبة، كما في القصيدة 29:
منذ أن نُسي هذا الجسد
بيد من وعد أن يأتي،
لم يعد فكري مشغولًا إلا بالسؤال:
هل ما زال موجودًا؟
الحب لا يبتعد كثيرًا عن الحزن، وهو ما نجده في القصيدة 15. إن عذوبة أونو نو كوماتشي تتسلل بين أبياتها؛ فمن السهل، عند قراءتها، أن نتخيل بكم من الرقة كانت تخاطب كل شيء من موقعها كسيدة في البلاط:
هذا النسيم الملتف
يشبه تمامًا
هبات الخريف الماضي.
وحدها دموعي
على كمّي جديدة.
وبالمثل، تلمّح أونو نو كوماتشي في بعض قصائدها إلى التأمل والوحدة. وهذه الثيمة نجدها في القصائد: 7، 9، 11، 26، 31، 33، 34. في القصيدة 9، تمتزج الطبيعة بالتأمل والعزلة:
تغني الزيزان
عند الغسق
في قريتي الجبلية،
هذه الليلة، لن يزورني أحد
سوى الريح.
وتكتب موراساكي شيكيبو، في حكاية غِنجي [15]، ما يلي:
لو كنتُ رأيتُ براعم السرخس التي جلبها من السفوح العالية،
لكنتُ عرفتُ، إذن، أن الربيع قد عاد(16).
كذلك، لدى كوماتشي قصائد تتمحور حول الطبيعة كموضوع أساسي: 13، 24، 32، 36، 38. وهي أبيات منسوجة بإتقان، تذكّر أحيانًا بكتابات إيميلي ديكنسون. في القصيدة 13، نلمح هذا الإصغاء لإشارات الطبيعة:
في جبل توكيوا
دائمًا ما تبقى أشجار الصنوبر خضراء.
أتساءل،
هل تدرك الخريف
في صوت الريح التي تهب؟
ويصح القول إنها تتحدث عن نفسها في كل قصائدها تقريبًا، لكن بشكل مباشر في القصائد: 18، 30، 37. في القصيدة 18 مثلًا تقول:
هذا الصباح،
حتى حُليَّ الصباحية
توارَت،
لا تريد أن تُظهر
شعري المبعثر من النوم.
وعن النسيان تبوح في القصائد: 20، 21، 25. ففي القصيدة 20 تقول:
هممتُ أن أقطف
زهرة النسيان
لنفسي،
لكنني وجدتها
قد نبتت في قلبه.
أما الخوف، فتحدثنا عنه في القصيدة 39:
فوانيس الصيادين
في جبل أوغورا انطفأت،
والغزلان تنادي رفاقها…
كم يسهل عليّ النوم
لو لم أشاطرها مخاوفها؟
وموضوع الزمن وانحدار العمر نجد له صدى في القصائد: 35، 41، 42، 43، 44. فالزمن، بلا شك، واحد من الثيمات الكبرى في شعر كوماتشي، إلى جانب الحب والوحدة، خاصة في مرحلتها الأخيرة، حيث الشيخوخة والانكسار. إنها قبول العابر، ومصالحة مع الطبيعة، وفسحة للميلانكوليا، تمنح مكانًا للجمال الناقص. ويُعتقد أنها ماتت وحيدة ومنسية، لكنها، بلا ريب، ظلت تنظم الشعر، محافظة على عذوبتها المعهودة [17]. وفي القصيدة 41 تقول:
بينما أراقب
الأمطار الطويلة تتساقط على هذا العالم،
يذبل قلبي أيضًا
مع اللون اللامرئي
لزهور الربيع.
ومن الشاعرات البارزات في العصر ذاته، السيدة إيزومي. عملها مذكرات إيزومي شيكيبو [18] يتناول موضوعات مشابهة، ويتميز بجرأة أبياته التي كانت نادرة في زمنها. وقد وصف كارلوس روبيو، في مقدمته، مذكرات الخروف الأسود بأنها تنتمي إلى “عائلة اليوميات النسائية في هييآن” [19]. وكتبت إيزومي شيكيبو في يومياتها [20]، ردًا على أبيات أرسلها إليها حبيبها:
متقلّبة أنا؟
إنما جلالتك المتقلب،
فمن غيره، إذن،
يتصرّف كموجٍ
يترك جانب الصنوبر؟

فرجينيا فرنانديث كويادو
ملاحظات:
(1) القمر الداكن بالحبر – قصائد حب لأونو نو كوماتشي وإيزومي شيكيبو. ترجمة جين هيرشفيلد بالتعاون مع ماريكو أراتاني. الطبعة الأولى من سلسلة “فينتج كلاسيكيات”، أكتوبر 1990.
(2) تسورِزورِغوسا – خواطر عابر، ترجمة خوستينو رودريغيث، دار هيبيريون، مدريد، 1986؛ أفكار محلّقة، يوشيدا كينكو، دار “إراتا ناتوراي”، مدريد، 2019.
(3) الساعات الكسولة، أورابي كينكو، غاليمار / اليونسكو، 1968، ص 23.
(4) كلمة تسي تعني “أغنية – كلمة”، وهو نوع من القصائد كان يُكتب ليلائم لحنًا موسيقيًا موجودًا (وإن كان اللحن قد فُقد اليوم). كانت هذه الصيغة شائعة في عهد أسرة تانغ (618–907). انظر: لي تشينغتشاو، الأعمال الشعرية الكاملة (60 قصيدة “تسي” للغناء)، منشورات “الشرق والبحر الأبيض المتوسط”، مدريد، 2010، ص 14.
(5) يشب نقي، لي تشينغتشاو، دار هيبيريون، مدريد، 2014، ص 165.
(6) الـواكا نوع من الشعر الياباني، ومعناها الحرفي “قصيدة يابانية”. ظهرت التسمية أول مرة في فترة هييآن للتمييز بين الشعر الياباني الأصيل والشعر المكتوب بالكانجي (القصائد الصينية)، الذي كان مألوفًا لدى الطبقات اليابانية المتعلمة والراقية. تتألف الواكا من خمسة أسطر 5/7/5/7/7 .
(7) “كوكين واكاشو، ويُختصر عادة إلى كوكينشو، مختارات شعرية إمبراطورية وضع فكرتها الإمبراطور أودا، وأمر ابنه الإمبراطور دايغو بجمعها مطلع القرن العاشر”. انظر: القمر في النافذة – حول «حكاية غِنجي» [وعن التيه وانتشار الخطاب] – 3، مجلة “كافيه مونتين”، 2018، على الرابط:
https://cafemontaigne.com/la-luna-en-la-ventana-acerca-de-genji-monogatari-y-de-la-errancia-y-propagacion-del-discurso/literatura/admin/
(8) المصدر نفسه.
(9) كارلوس روبيو، كوكينشو – مجموعة من القصائد اليابانية القديمة والحديثة (قانون الكلاسيكية)، اختيار وترجمة وتقديم وحواشٍ بقلم كارلوس روبيو، طبعة ثنائية اللغة، دار “شعر هيبيريون”، مدريد، 2005، ص 100. في الحاشية 53 من الصفحة نفسها، يذكر أن سوتوري كانت الإمبراطورة القرينة للإمبراطور إينغيو 437–454.
(10) الـنو، اختصار نوغاكو، من أقدم أشكال المسرح في اليابان، ويعود إلى القرن الرابع عشر. تتناول موضوعاته عوالم ما وراء الطبيعة، وتدور حول شخصيات تمثل آلهة أو أرواحًا أو أشباحًا، أو شخصيات تاريخية وأسطورية.
(11) حول هذه الأسطورة، انظر: كارلوس روبيو، 2005، ص 41.
(12) القمر الداكن بالحبر – قصائد حب لأونو نو كوماتشي وإيزومي شيكيبو: نساء البلاط الياباني القديم. ترجمة جين هيرشفيلد بالتعاون مع ماريكو أراتاني، الطبعة الأولى من سلسلة “فينتج كلاسيكيات”، أكتوبر 1990، المقدمة، ص xi.
(13) سي شوناغون، كتاب الوسادة. اختيار وترجمة خورخي لويس بورخيس وماريا كوداما، دار “أليانثا”، مدريد، 2015؛ انظر أيضًا: كتاب الوسادة، سي شوناغون، دار “أدريانا إيدالغو”، قرطبة (بوينس آيرس)، 2003.
(14) سي شوناغون (2015)، ص 173.
(15) حكاية غِنجي – الجزء الثاني، موراساكي شيكيبو، دار “أتالانتا”، جيرونا، 2006.
(16) المصدر نفسه، ص 104.
(17) يورد كارلوس روبيو أسطورة تصفها بأنها “عجوز مهملة، مغطاة بالخرق، متسولة”، المرجع نفسه، ص 41. وفي الطبعة الفرنسية من أعمالها وجوه مخفية، مشاعر مختلطة [غاليمار، (معرفة الشرق)، نوفمبر 1997]، يُذكر عام 900 كتاريخ تقريبي لوفاتها.
(18) مذكرات السيدة إيزومي، إيزومي شيكيبو، ترجمة أكّو إيموتو وكارلوس روبيو، مقدمة كارلوس روبيو، دار “ساتوري”، خيخون، 2017.
(19) المصدر نفسه، ص 11.
(20) المرجع نفسه، ص 106.