أحداثجاليري

فؤاد مرسي يضيء مسيرة المسرح بالقليوبية

بقلم: أشرف أبو اليزيد

إن المسرح هو الفضاء الذي يجتمع فيه الحلم الشعبي مع الخبرة الحرفية، حيث تصنع العروض الكبرى من الخيال والعرق والتعاون، هكذا يكتب فؤاد مرسي في كتابه الأحدث. وإذا كانت الكتب تُقرأ من عناوينها، فإن أوراق من تاريخ المسرح في القليوبية” للسارد والباحث فؤاد مرسي يُقرأ من إهداءاته التي جاء في الصفحة الخامسة، وكشفت عن محتوى الكتاب ونهجه، فهو عمل توثيقي ثري، يمزج بين السرد التاريخي والشهادة الشخصية والبحث الميداني لرصد مسيرة المسرح في إحدى محافظات القاهرة الكبرى؛ القليوبية، منذ بداياته وحتى العقود الأخيرة، ليتبنى الكتاب منهجًا يجمع بين الرواية التاريخية ورصد التحولات الاجتماعية والثقافية التي شكلت ملامح التجربة المسرحية في بيئة محلية، لكنها مفتوحة على التأثيرات الوطنية والعالمية.

أول الإهداءات كان للفنان الراحل سيد الباجوري، الذي اكتشف المؤلف أن بروفات مسرحياته التي كان يجريها على مسرح قصر ثقافة بنها، هي “أول درس فني تلقيته في حياته”. وثاني الإهداءات خص به المؤلف صديقه وأستاذه محمود السبكي، الذي جمعه حلم لم يكتمل مع المؤلف بأن يكتبا عملا مسرحيا مشتركا. وثالث الإهداءات ذكرنا بالكوميديان البارع محسن غانم. ورابع الاهداءات فكان لأستاذ فؤاد مرسي وشيخه الشاعر محمد الشرنوبي شاهين، وخامس الاهداءات كان لأبيه، السيد مرسي.

أما خاتمة الاهداءات، فكان للفنان فهمي منصور الذي مثل أرشيفه الخاص البداية الحقيقية لهذا العمل، الذي صدر عن الهيئة العامة لقصور الثقافة، إقليم القاهرة الكبرى وشمال الصعيد الثقافي، فرع ثقافة القليوبية في 150 صفحة.

وفي الندوة التي شهدتها بنها خلال أمسية نهاية الأسبوع، أعاد فؤاد مرسي الأرشيف لصاحبه، وكأنه يعيد الأمانة التي حملها مؤمنا بأن آخرين عليهم أن يكملوا مشوار التوثيق، خاصة وأن الجلسة ضمت كتابا وفنانين مسرحيين من مختلف الأجيال.

يكتب فؤاد مرسي:

“ورغم أن هذا العمل لا يضاهي الإحاطة الشاملة بعصور المسرح في القليوبية ولا كهوفه وظلاماته المعقدة، إلا أنني سعيت جاهدًا لتوثيق ما توفّر لي من معلومات ووثائق ومشاهدات شخصية.”

بانوراما الإهداءات تشي بأمرين؛ أن الكتاب – أولا – هو ابن للوثائق التي توفرت لمؤلفه، وأن سطور الكتاب – ثانيا – هي مزيج من الخاص والعام، لا يطبق عليه المؤلف صرامة البحث العلمي، وإنما يفككها إلى سرديات يبرع فيها القاص والروائي والحكاء،  التي رآها وسيلة أكثر امتاعا من سرد تاريخي وحسب، أو ثبت بالأرقام والتواريخ وكفى.

وهكذا لا يخلو التناول من لمسات وجدانية، إذ يستعيد الكاتب، والقاريء مثلي، ذكريات شخصية وعلاقات إنسانية جمعت بين أبناء الحركة المسرحية، كاشفًا عن روح التعاون والصداقة التي كانت تحركهم رغم قلة الموارد.

يبدأ المؤلف برسم صورة بانورامية للبدايات الأولى للفعل المسرحي في مدن وقرى القليوبية، مستعرضًا الأندية والجمعيات الثقافية ودور العرض التي احتضنت أولى المحاولات، سواء في إطار الهواة أو المبادرات المدرسية والشبابية. ويولي اهتمامًا خاصًا بدور بَنها، بوصفها مركزًا محوريًا لانطلاق الفرق المسرحية، من خلال مسارح المدارس الثانوية والجمعيات الخيرية والنوادي، وكذلك صالات السينما التي تحولت في فترات إلى فضاءات للعروض الحية.

يمضي المؤلف في فصوله ليسجل، بالأسماء والتواريخ، أسماء الرواد والمخرجين والممثلين والموسيقيين الذين أسهموا في إثراء المشهد، مع تتبع أعمالهم وتجاربهم الفنية، وما واجهوه من تحديات تتراوح بين ضعف الإمكانيات المادية، والتغيرات الاجتماعية، وأحيانًا العراقيل الإدارية.

يتميز الكتاب بإضاءته على محطات فارقة في تاريخ المسرح بالقليوبية، منها تأسيس فرقة القليوبية المسرحية الرسمية، وكانت تتبع المحافظة (1960)، قبل أن يتم تدشينها رسميا بعد ست سنوات وتقدم في العام التالي بداية العروض الكبرى التي نُفذت بالتعاون مع وزارة الثقافة، “الأراجوز” والتي جمعت بين النصوص التراثية والتجريب الإخراجي الحديث، وحققت حضورًا جماهيريًا وجوائز على مستوى المهرجانات. مسرحية “الأراجوز” كانت بداية لتاريخ جديد، فهي لم تكن عرضًا فحسب، بل حدثًا ثقافيًا جمع بين الموروث الشعبي والرؤية الإخراجية المعاصرة. كما يوثق المؤلف مراحل الانتقال من النشاط المدرسي والفرق المستقلة إلى الفرق التابعة لقصور الثقافة، مع ما رافق ذلك من تغيير في أنماط الإدارة والتدريب والإنتاج.

فؤاد مرسي يعرض إحدى وثائق الكتاب

الكتاب كان يمكن أن يحمل عنوان أعلام المسرح في القليوبية لو استراح فؤاد مرسي لفكرة كتابة (بورتريهات) سواء للآباء المؤسسين، أو الرواد، أو النابغين، ومن تبعهم. تماما  كما فعل في نموذج تناوله للفنان الراحل محمود جمعة.

ورغم المحاولة القيمة للكتاب بالاعتماد على وثائق وصور شخصية، وصورتين من مسرحيتين، وبعض برامج عروض مسرحية، إلا أن حدود الطباعة بالسلسلة وحجم الصور المتاحة لم تمنح كامل متعة التلقي. الجميل بالفعل كان توثيق مقابلات شخصية منحت مصداقية وثراءً أرشيفيًا، وجعلت الكتاب بوابة  أولى  للباحثين في تاريخ المسرح المصري المحلي يلج منها من يريدون التوسع.

عودة الأرشيف إلى صاحبه الفنان فهمي منصور

في المجمل، يمثل الكتاب جهدًا استثنائيًا في حفظ ذاكرة المسرح في القليوبية، ويقدم نموذجًا لأهمية التوثيق المحلي كجزء من تاريخ الحركة المسرحية المصرية. إنه لا يقتصر على تسجيل الماضي، بل يثير أسئلة حول حاضر ومستقبل المسرح في الأقاليم، ودور المؤسسات الثقافية في دعمه.

وإذا كانت القليوبية قد تميزت على الدوام بأنها رافد مهم من روافد الحياة الثقافية والفنية في مصر، فإن المسرح كان واحدًا من أبرز مظاهر هذه الحياة، فلم يكن المسرح في القليوبية مجرد هواية أو نشاط وقت فراغ، بل كان انخراطًا جادًا في فعل ثقافي له أهداف ورسائل كما يكتب فؤاد  مرسي. وكانت فرقة القليوبية المسرحية بمثابة بيت لكل موهوب، وأثبتت أن العمل الجماعي قادر على تحقيق المعجزات حتى في ظل الإمكانات المحدودة.

كاتب المقال، بين الفنان فهمي منصور ، والناشر مجدي أبو الخير

يختتم فؤاد مرسي: المسرح في الأقاليم هو خط الدفاع الأول عن الثقافة المصرية الأصيلة، وهو القادر على غرس قيم الجمال والانتماء في نفوس الناس. نني أكتب هذه الأوراق، لا لأغلق ملف الماضي، بل لأفتح الباب أمام أجيال جديدة تواصل الحلم وتكتب فصولاً أخرى في مسيرة المسرح بالقليوبية..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى