أحداثأدبجاليريشخصيات

قديس ضد أسد

كتاب قرأه: أشرف أبو اليزيد

مارجريتا آل، وإبراهيم استنبولي

أتاح لنا المؤتمر العالمي الثاني، الذي دعت إليه منظمة كُتّاب العالم (WOW)، برئاسة الشاعرة والفنانة مارجريتا آل، وجاء ضمن تظاهرات برنامج جمعية شعوب العالم في موسكو، 20 – 21 سبتمبر 2025، أتاح لنا أن نلتقي بأصدقاء قدامى وجدد، وفيهم من الأصدقاء القديم والجديد معا، وأحدهم الدكتور إبراهيم إستنبولي، فهو قديم بحكم اللقاء والمتابعة عبر الفضاء الأزرق في فيسبوك، وجديد حين حلقت فوقنا راية (WOW)، وتحلقنا حول موائدها المستديرة والمستطيلة، جلوسا ووقوفا، في العاصمة الروسية.

وُلد إبراهيم استنبولي في قرية العنازة السورية عام 1957م، ليشق مسارًا فريدًا جمع بين الطب والأدب والترجمة. منذ سنواته الأولى، حمل شغفًا بالمعرفة والإنسان، فكان اختياره دراسة الطب النفسي والعصبي في جامعة الصداقة بين الشعوب بموسكو، حيث تخرج عام 1987م. هناك، على أرض روسيا، لم يتلقَّ علوم الجسد والعقل فحسب، بل انفتح على كنوز الأدب الروسي التي ستصبح لاحقًا رسالته الكبرى إلى العالم العربي.

استنبولي ليس مجرد مترجم، بل هو صوت ثقافي ينقل روح النصوص، ويحفظ جمالياتها، ليمنح القارئ العربي نافذة واسعة على الأدب والفكر الروسيين. على مدى عقود، قدّم ترجمات نوعية لمفكرين وأدباء كبار، من أمثال ألكسندر كوبرين ورسول حمزاتوف ودوستويفسكي وإيفان بونين وفلاديمير نابوكوف، ليجعل من أعمالهم جزءًا من المكتبة العربية. وقد أضاف إلى هذا الجهد أيضًا ترجمات في مجالات علمية وفكرية وفلسفية، أبرزها كتب فالنتين كاتاسونوف وألكسندر دوغين وفاديم زيلاند.

من بين إنجازاته البارزة، فاز كتابه استعباد العالم بجائزة سامي الدروبي للترجمة عام 2017، تأكيدًا على مكانته كأحد أبرز المترجمين العرب عن الروسية. كما ألّف أعمالًا فكرية وأدبية منها: الانفعالات السلبية في حياتنا اليومية (1999) وأن تختار القمر: قراءات ودراسات في الأدب الروسي (2011).

أثرى المكتبة العربية بعشرات الترجمات التي تراوحت بين الرواية والشعر والدراسات العلمية والفلسفية، من سوار العقيق و*”شولاميت”* و*”غامبرينوس”* لألكسندر كوبرين، إلى رسالة فينوس لميخائيل شيشكين، ودعوة إلى الإعدام لفلاديمير نابوكوف، وصولًا إلى مختارات من الشعر الروسي وحكايات الحكمة العالمية.

يمثل إبراهيم استنبولي في تجربته نموذجًا للمثقف الموسوعي، الذي جمع بين مهنة الطب ودقة الباحث، وبين حساسية الأديب وأمانة المترجم. لقد جعل من الترجمة جسرًا إنسانيًا يربط بين ضفتي الثقافة الروسية والعربية، وأسهم في إثراء الوعي الجمعي العربي بما حمله من صور وتجارب وأسئلة إنسانية كبرى.

إنه ليس مجرد مترجم، بل حارس ذاكرة للأدب العالمي، وصوتًا عربيًا منح النصوص الروسية حياة جديدة في فضاء لغتنا وثقافتنا. ولذلك لم يكن غريبا أن أجد صدى هذه السيرة في كتابه المترجم الذي أهداه لي خلال المؤتمر ” قدّيس ضد أسد، للكاتب بافل باسنسكي، بعنوانه الفرعي يوحنا كرونشتاد وليف تولستوي قصة عداء، ربما كان هذا الكتاب بصفحاته التي بلغت 600 دليلا على مدرسته النابغة في الترجمة، مثلما كان برهانا على الأطر النموذجية للسير الذاتية.

بدلا من المقدمة، وتحت عنوان (القيصر يضحك)، نقرأ هذه السطور الاستهلالية:

“تشير مذكرات إيفان زاخارین عضو مجلس الدولة والمدير السابق الفروع البنك الفلاحي في كل من فيلنوس وكوفنو وأورينبورغ وستافروبول، بالإضافة إلى كونه قاصا وكاتباً مسرحيا كان يكتب تحت اسم مستعار ياكونين إلى حديث دار بين القيصر ألكسندر الثالث والكونتيسة ألكسندرا أندرييفنا تولستايا، عمة ليف تولستوي المعظمة المعروفة باسم ألكسندرين – البنت التي بقيت عذراء وخادمة الشرف ومعلمة الدوقة الكبرى ماريا ألكساندروفنا. لم تشتهر ألكسندرين في البلاط بتقواها الذي لا تشوبه شائبة وبسعيها للأعمال الخيرية فحسب، بل وبذكائها الاستثنائي وبذائقتها الأدبية وشخصيتها المستقلة أيضًا – وهذه سمة مميزة لسلالة آل تولستوي عموما.

كان للقيصر ممر مستقل إلى غرفة خادمة الشرف من خلال رواق زجاجي معلق في الهواء ويربط بين قصر الشتاء ومتحف الإرميتاج، وقد ذهب القيصر إليها للتشاور بشأن إمكانية نشر تولستوي سوناتة لكرويتزر» التي تم حظرها من قبل هيئة الرقابة الروحية.

لقد سمحت لنفسي بالتعبير عن رأيي بمعنى إيجابي وأوضحت لصاحب السيادة أنَّ كلَّ روسيا قد قرأتها ومازالت تقرأها في واقع الأمر، وبالتالي، فإن السماح بإصدارها سوف يقلل فحسب من نطاق الجمهور الذي يعتبر صيادًا عظيمًا لكلِّ ثمرة (محرمة . غالبا ما كانت النساء في روسيا أكثر حكمة من أزواجهن. لقد سمح بالنشر في الجزء الثاني من أعمال تولستوي الكاملة.

إبراهيم استنبولي يهدي كتابه المترجم إلى أشرف أبو اليزيد

كان حديث القيصر والعمة  عن شعبية تولستوي غير العادية في روسيا (1891)، وسندرك أن المكانة الدينية لغريمه في العنوان قد أهلته لشعبية أكبر.

«قديس ضد أسد» هو الكتاب الثالث في السيرة الذاتية المدهشة التي كتبها بافل باسينسكي عن ليف تولستوي.
بدأ المشروع بكتاب «الهروب من الجنة»، الذي تناول العلاقة المعقدة بين صاحب الحرب والسلام وزوجته، ثم تلاه بكتاب «قصة الحب والكراهية»، حيث أضاء بعمق على علاقة الأديب الكبير بابنه.

أما في هذا الجزء الثالث، فقد اختار باسينسكي أن يضعنا أمام واحدة من أشرس وأعمق المواجهات في التاريخ الروحي والاجتماعي الروسي: الصراع بين تولستوي والقديس يوحنا كرونشتاد، الكاهن الأرثوذكسي الشهير. لم يكن الخلاف مجرد جدال لاهوتي أو سجال عابر، بل تحوّل إلى ما أُطلق عليه لاحقًا «معركة العمالقة»، معركة حول السؤال الجوهري: من هو الأكثر تأثيرًا وشعبية في روسيا؟

بهذا الكتاب، يرسم باسينسكي لوحة نابضة لحوار الصدام بين القداسة والعبقرية الأدبية، بين سلطة الكنيسة وسلطة الكلمة، مقدّمًا فصلًا جديدًا من سيرة تولستوي التي لا تنتهي، حيث يتقاطع الأدب بالدين، والفكر بالسلطة، والإنسان بالأسطورة.

قديس ضد أسد، رفيق الرحلة من موسكو إلى القاهرة

الجميل في الكتاب أنه بمثابة رواية موازية، أو لنقل موسوعة حكايات توثق التاريخ المجتمعي والأدبي لروسيا أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، وفي كل حكاية تفصيل تبدو وكأنه يولد حكايات كألف ليلة وليلة، مثل الأيقونات التي يحتفظ بها تولستوي وما وراء كل منها.

ألقي القبض على القديس تريفون بسبب موعظته هذه، ثم أصدر الإمبراطور ديسيوس شخصيا الأمر بإعدامه. إلا أنه قبل أن يرفع السفاح سيفه كان القديس تريفون قد سلم روحه للرب. ثمة رواية في موسكو تفيد بأن القديس تريفون قدم المساعدة للصقار (يضيف المترجم: رتبة قديمة في البلاط الأميري – يرأس صاحبها الصيد بواسطة الصقور وربما أعمال الصيد العسكري في الإمارة ) عند إيفان غروزني بأن يساعد الأمير تريفون باتريكييف في العثور على الصقر (الشاهين) الملكي المحبوب الذي فقد أثناء الصيد. كان يمكن لهذه الحادثة أن تكلف الأمير حياته، ولذلك راح يصلي بحرارة طالبا المساعدة إلى أن غفا من الإرهاق. جاء القديس تريفون إلى الأمير في الحلم وأشار له إلى المكان الذي يوجد فيه الصقر . بمجرد أن استيقظ الأمير انطلق على الفور إلى المكان المحدد ورأى بالفعل الطير وقد وقف بهدوء على غصن في شجرة. وكنوع من الشكر على إنقاذ حياته بطريقة عجيبة، قام الأمير ببناء كنيسة صغيرة في نفس ذلك المكان كذكرى للقديس تريفون

كانت ت. أ. يورغو لسكايا تحبُّ ليف الصغير أكثر من أشقائه الكبار. وربما لهذا السبب كانت سخية في تقديمها هدايا له أيقونات ترتبط بسيارة الإسعاف». على سبيل المثال، كان عامة الناس في موسكو يطلقون على أيقونة القديس تريفون على سبيل المثال، سيارة الإسعاف. وإذ كانت العمة تعرف الطبع الصعب لابن أخيها بشكل جيد، فقد توقعت له مصيرا معقدًا وبذلت قصارى جهدها لكي تحميه من مختلف أنواع المصائب. لهذا السبب تثير الفضول تلك الأيقونة الخامسة من أيقونات ليف تولستوي التي بقيت محفوظة في ياسنايا بوليانا، والتي كانت قد أهدتها له يورغو لسكايا أيضًا، وهي أيقونة العذراء للأفراح الثلاثة». لا تعرف قصة إهدائها بصورة واضحة حسب كلام زوجة الكاتب صوفيا أندرييفنا، تم تقديمها لليف نيكولا ييفيتش قبل سفره للمشاركة في حرب القرم في شباط من عام 1854. إذ إنه كان قد جاء بالفعل إلى ياسنايا كان تولستوي يحب أن يتبادل معهم الحديث ما كانوا ليقبلوا بأن ينفتحوا على شخص غريب عليهم يرتدي ملابس النبلاء. ذلك أن الريبة الغريزية نجاه السيد الذى كان حتى وقت قريب مالكًا للعبيد بالنسبة لهم، كانت موجودة فى دماء الفلاحين الروس. حتى إن ابن المدينة اليوم يشعر بعدم الثقة تلك عندما يجتمع مع أحد الأشخاص الذين يعيشون في الريف. ولكن السبب بالضبط ، غالبًا، وجد تولستوى لنفسه «لباسًا يناسب مضمونه) الفلاحين كانوا سيكونون أكثر تحفّظا فى الحديث مع رجل متأنق . ولهذا شكل عضوي. ففى ذلك «اللباس» بالتحديد لم يكن تولستوي مضطرًا لأن يتصنع وأن يقدم : نفسه على أنه «السيد» الذي يهتم بشؤون الناس. إنَّ تولستوي الذى كان يعرف أسماء الفلاحين فى ياسنايا بوليانا، وكان يعرف تفاصيل حياتهم لم يكونوا على سبيل المثال، يخفون عنه أنهم يخبئون عندهم المساجين الهاربين من مكان الاعتقال)، والذي كان يكتب لأجلهم التماسات إلى مختلف المؤسسات الحكومية وغير ذلك، لم يكن بحاجة، بالطبع، إلى أي تنكر. توضح حكاية الملابس الشيء الكثير من غرابات تولستوي، التي كانوا وما زالوا يرون فيها نوعا من السلوك الشائن أو الاستفزاز المتعمد، وتعبيرا عن الغرور».

مما لا شك فيه، أنه يمكن الحديث عن تولستوي كرجل متكبر، لم يستطع حتى نهاية حياته أن يستكين وأن يتخلّى عن شخصيته المتميزة. وفي الوقت نفسه من الضروري أن نفهم، أنَّ تلك الكبرياء كانت مصدرًا للسعادة بالنسبة له، وبشكل خاص للرضا عن الذات، ولكنها كانت سببا لعذاب أخلاقي حقيقي. والشيء الأكثر أهمية هو أنه يجب علينا أن نفهم أنَّ هذا الإنسان لم يتمكن ببساطة من أن يجد نفسه في هذا العالم. ومن بين مجموعة من لم يختر الاحتمال الأفضل الذي يرضي الجميع، احتمالات السلوك عنده، وإنما اختار ذلك السلوك الذي كان يشعر بأنه ينطوي على الحد الأدنى من الافتراق بين مضمونه» و «مظهره الخارجي».  وقد تجلى هذا بشكل دراماتيكى أكبر في الصراع بين تولستوي والكنيسة.

الكتاب يقدم سجالا مجتمعيا، كأنه يناقش مثلا مفهوم «الفلاح» بما يخص المظهر الخارجي والذي لم يكن يقتصر على طبقة الفلاحين. إذ إن أفقر طالب في بطرسبورغ كان يبدو فى لباسه التاجر، على سبيل المثال. وقد كتب فلاديمير ريابوشينسكي، وهو احد الجامعي الرسمي ومع سيف معلق على خصره أرستقراطيًا بالمقارنة مع أكبر الصناعيين الروس ومؤرخ وعالم لاهوت روسي عن هذا التناقض الصارخ بين المظهر والمضمون الداخلى، الذى نشأ بعد التعديلات التي أجراها بطرس الأكبر : كان الرجل واسع الإطلاع والتاجر الثري من المؤمنين بالطقوس القديمة ومع لحية ويرتدي سروالا روسيا طويلا، وهو صناعي موهوب وصاحب منشأة يعمل فيها مئات وربما آلاف العمال، وفي نفس الوقت خبير في الفنون الروسية القديمة وعالم آثار وجامع أيقونات وكتب ومخطوطات، وعلى معرفة كبيرة بالقضايا التاريخية وبالمسائل الاقتصادية، عاشق لعمله ولكنه مثقل بالتساؤلات ذات الطابع الروحي -كان مثل هذا الرجل «فلاحا»، في حين أن موظف في السكرتاريا، حليق الذقن وفي لباس غربي الطابع ومع معارف سطحية تماما، وفوق ذلك ضيق الأفق وقليل الثقافة في حقيقة الأمر، لكنه مرتش في معظم الأوقات أنه ينتقد في السر ويدين بسبب الحاجة جميع أولئك الذين يقفون أعلى من ذواتهم، يحتقر الفلاح بشدة وهو أحد أسلاف الطبقة المثقفة الروسية المقبلة – يكون سيّدًا». وقد استمر هذا الوضع حتى منتصف القرن التاسع عشر، من دون تغييرات ذات قيمة، وبقيت آثار هذا الانقسام حتى مع بداية القرن العشرين وقيام الثورة. وهكذا، كان لاستبدال الملابس عند تولستوي معنى أخلاقي أيضًا: كان سيشعر بالخجل إذا ما وجد نفسه إلى جانب فلاح وهو يرتدي قميصا من الحرير مع شريط. كما كان لذلك معنى عملي أيضًا. كان الفلاحون في ياسنايا بوليانا، وبغض النظر عما كان تولستوي يرتديه، يدركون بالطبع أن الرجل الذي يقف أمامهم هو السيد.

كم هي عميقة وهائلة تلك الهاوية الاجتماعية التي تفصل بين أولئك الناس !

تشير تكوف – سليل عائلة أميرية من المجتمع الراقي. وهو ضابط لامع في سلاح الفرسان مع مهنة عسكرية مضمونة سلفا . كما أنه ثرى ومحبوب بين رفاقه وفى نهاية المطاف هو محبوب أبيه وأمه، لأنه الولد الوحيد في الأسرة بعد وفاة شقيقيه .  إليكم كيف وصف ليف لفوفيتش، نجل تولستوي، أول ظهور لتشير تكوف: جاء الضابط اللامع في سلاح الخيالة، في خوذة مع نسر برأسين، وقد كان وسيمًا وابن أسرة ثرية جدا وعريقة، فلاديمير غريغورييفيتش إلى تولستوي لكي يقول له إنه يشاطره آراءه وإنه يريد أن يكرس حياته بأكملها لخدمته». أما ظهور باراسكيفا كوفريغينا في كرونشتاد فنحن نعرف عنه من خلال الكتاب عن يوحنا كرونشتاد لعام 1910 ، الذي قام بتأليفه نصيره المتحمس له جدا وناشر جريدة منارة كرونشتاد نيكولاي بولشاكوف. لكن أسلوب كتابه من الصنف الذي لا يمكن الركون إليه إلا بحذر شديد. وبنفس الحذر ينبغي التعامل مع سيرة كوفريغينا بالذات، كما أوردها بولشاكوف في سياق تاريخي.

وكما أنها ترجمة مضنية في تقفي التفاصيل، وممتعة في اقتفاء الأثر، أشكر كلا من مؤلفها ومترجمها معا، فقد أعادا رسم صورة تولستوي من زاوية أخرى، لا تزال تسائل الزمن والقراء في الحكم عليها.

استنبولي مشاركة في مائدة مستديرة بالمؤتمر عن الترجمة

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى