
في عالم الفن التشكيلي تبدو محاولة الاقتراب من الطبيعة، والاندماج في عناصرها، واستلهام مفرداتها، بذورا للمتعة، يغرسها الدأب، ويرعاها الحرص على الاستكشاف، ثم يمنحها الثمار قدرة الباحث، الفنان، الذي خرج من صومعته ومرسمه، ليعانق تلك الطبيعة، محاولا الكشف عن أسرارها، وتجاوز التجربة الاستمتاع الاستاطيقي بالمكان، للإجابة عن أسئلة كونية، تربط جذور الجغرافيا بالإنسان الذي عاش فيها ولها. من هنا تأتي فرادة تجربة الفنان التشكيلي المصري ياسين حراز، الذي سافر على امتداد الطريق المؤدي إلى البرلس وبلطيم (بامتداد ساحل البحر المتوسط شمالي القاهرة)، بعد اجتياز نهر النيل فرع رشيد، والمساحات الخضراء التي تقل تدريجيا، معلنة الانتقال ممن المجتمع الزراعي والريفي بجمالياته ومقوماته، لتبدأ طبيعة المكان بالانتقال إلى تدرجات صفراء رملية تختلط بالطبقات الطينة، وكأنه انسحاب يفرد مساحته لطبيعة مغايرة، وتنتشر مسطحات متباينة الألوان، بيضاء، وأخرى تخلط البني والبنفسجي والأخضر، معلنة عن الأراضي الملحية، والاقتراب من منطقة البرلس. في الإسكندرية التقيت بالفنان ياسين حراز صاحب تلك التجربة، وكان هذا الحوار:
الحياة هي الرحلة، وسأبدأ معك هذا الحوار باستعادة رحلة البحث التي كرستها لرسالة الدكتوراه، لنعد معك إلى تلك البدايات…
بالنسبة لتجربة الدكتوراه. بدأت الفكرة منذ سنوات طويلة وتحديدا عام2003 عندما زرت بحيرة البرلس وانبهرت بالطبيعة الخلابة الهادئة، وأشكال المراكب ذات الأشرعه البيضاء، بالإضافة إلى بعض المراكب التى تشبه مراكب الشمس وتعد امتدادا لها، وذلك للتشابه الواضح بينهما، بالإضافة إلى أن بحيرة البرلس نفسها لها تاريخ عريق موغل في القدم، وتعد أسطورة ايزيس وأوزيريس خير شاهد على ذلك، فقد ارتبطت أحداثها ببحيرة البرلس.
كما تعد البرلس أيضا وبحيرتها منطقة جذب للكثير من الطيور المهاجرة؛ مثل بط الكيش والشرشير والبلبول والغر بالاضافة الى البلشون الأبيض وبعض أنواع الطيور المقيمة كالقطقاط وصياد السمك الأخضر والأبقع…
ماذا تتذكر من مشاهد في رحلة بحيرة البرلس ورؤيتك التشكيلية لها؟
تعتبر طرق صيد السمك في بحيرة البرلس ذات طابع بدائي نوعاً ما مثل طريقة الصيد باللقافة وشباك الدوره والجوبيا، ونضيف أيضا للمشاهد تلك الدرجات اللونية المميزة للمراكب، وهى متكررة في معظم المراكب مثل الأحمر والأخضر والسماوي …
وتمتاز البحيرة أيضا بالعديد من الجزر المتناثرة على سطحها، ويحمل بعضها الطابع التاريخي مثل جزيرة سنجار، وتتشابه كل تلك الجزر بالطبيعة الهادئة وانتشار النباتات الطبيعية والبوص والسمار واستغلالها في تربية الحيوانات الريفية كالأبقار، وأيضا تردد الصيادين عليها للإقامة بعض الوقت ولجمع البوص واستخدامه فى بناء العشش وعمل الأسوار لتحديد الملكية…
وقد كانت تجربتي في الإبحار داخل البحيرة خلال فصل الشتاء من التجارب الأكثر إمتاعا وتشويقا، خاصة عند الابتعاد تدريجيا عن الزحام وصخب المدينة، والاقتراب رويدا رويدا من الطبيعة البكر المغلفة بالهدوء والسكون والهواء النقي واتساع خط الأفق، كما لحظت في هذه التجربة مدى ارتباط الصياد بقاربه، وحبه له، والعناية به، بالإضافة لفهمه للطبيعة، وظروف الأجواء المحيطة التي تعيه حين يبحر، في الذهاب والإياب، بالإضافة إلى كم ضيافته وأخلاقه التي تتسم بالطيبة والهدوء والصبر.
كان أحب لقب سعدتُ به حين لقّبني الشاعر اليمني الكبير الدكتور عبد العزيز المقالح بالسندباد الشاعر، لكنني بعد رؤية لوحاتك التي تجوب مصر بثيماتها أرى أنك تمثل السندباد التشكيلي المصري حقا، فأنت تقوم برحلة عين الطائر في ربوع الوطن، كيف بدأت ذلك المشروع الرحلي التشكيلي من الشمال إلى الجنوب، وبين الشرق والغرب؟
نبدأ الحديث عن عروس البحر المتوسط؛ الإسكندرية، فبحكم إقامتي التي ارتبطت بالدراسة والعمل والتدريس في كلية الفنون الجميلة بالإسكندرية. تأثرت بطبيعة الحال بالمثيرات البصرية التي تميز المدينة…
على سبيل المثال لا الحصر منطقة كوم الدكه بمبانيها العتيقة وأزقتها الضيقة، التى تحمل عبق الماضي والزمن الجميل، وأيضا حدائق أنطونيادس الأثرية، ومنطقة بحري أو الأنفوشي، وقلعة قايتباي الأثرية… هنا نجد التميز والابداع في الموقع والتنوع والثراء اللوني، وأشكال مراكب الصيد والصيادين. كل ذلك – وأكثر – أتاح لي ولكثير من الدارسين والفنانين استلهام أعمال فنية رائعة ومتنوعة وخاصة اللوحات التي تعبر عن الطبيعة الخلابة التي تميز منطقة بحري …
ولا ننسي المناظر الطبيعية الريفية في كفر الشيخ التى يسيطر عليها اللون الأخضر المنتشر في الحقول والمزارع من نباتات وأشجار بالإضافة إلى العنصر البشري ومجموعات الطيور والحيوانات الريفية والبيوت المتناثرة هنا وهناك … وفي الريف بمدينة مطوبس الجميله بلد المنشأ،مصدر الالهام الأساسي وبداية الرحله التشكيلية..
عبر تنقلاتى في ربوع مصر الحبيبة تم ترشيحى لملتقى الأقصر الدولي، واستلهمت تجربتى الفنية من تكوينات بيوت القرنه القديمة في البر الغربي بالأقصر. ثم انتقلت إلى أسوان والنوبة والبيوت النوبية بزخارفها الجميلة، والنيل العظيم بمراكبه الشراعية وأناسها الطيبين، كانت كلها مصدر إلهام لمجموعة من اللوحات الزيتيه المعبرة عن تلك الطبيعة الخلابة
وأخيرا كانت تجربتى المختلفة والثرية في ملتقى سانت كاترين؛ حيث المراكب المحلقة في الفضاء الرحب والتى تعبر جبال سانت كاترين بتضاريسها وألوانها الجميلة، بالإضافة إلى روحانية المكان الذي يجمع بين الأديان السماوية الثلاثة ولذلك يعد مجمعا للأديان.
دائما ما أسأل الفنانين الأكاديميين عن رؤيتهم للواقع الفني من خلال الأجيال الجديدة ، سواء من يدرس الفن أو يمارسه … اشرح لي وجهة نظرك وتطلعاتك لهذا الجيل، وما هو طموحك في استمرار رحالة هذا المشروع التشكيلي؟
أرى أن مستقبل الفن في مصر مرتبط بتهيئة المناخ المناسب والملائم للابداع والعطاء من خلال دعم شباب الفنانين والفنانات فى جميع المجالات الفنية خاصه الفن التشكيلي. واقترح زيادة عدد الملتقيات الفنية التى تعبر عن الطبيعة المصرية الخلابة من الشمال إلى الجنوب ومن الشرق إلى الغرب وعمل معارض للاقتناء ويكون هناك نسبة من الربح تُعطى إلى الفنان.
أنت تحلق في سماء اللوحة بجناحي الحرف والتشكيل، لأسألك عن عشق الحرف العربي، ونقله من الزخرفة إلى لوحة الإطار
الخط العربي عالم صوفي روحاني، يصفي الذهن ويريح النفس من عناء السفر والترحال الدائم، ويعطى فرصه للبحث في ماهية الكون وعظمة الحضارة الإسلامية، فكانت الدراسة الأكاديمية في مدرسة الخط العربي في الإسكندرية، وعمل مجموعة من اللوحات بخامة الأكريليك تعبر عن جماليات الخط العربي؛ وخاصة خط الثلث، وذلك فى معرض خاص بجاليري العاصمة في القاهرة.
وأنا أشاهد لوحات ياسين حراز، ومنها المجموعة المختارة هنا، أتذكر اقتران أحلام الإنسان دومًا بالتحليق، ومحاولته أن يقلد الطيور التي قاومت جاذبية الأرض، فصنع جناحين لم يخفقا كما أراد، فأخفق. ثم جاء العلم، فجعل للآلات أجنحة تحمل الإنسان للفضاء وتطير به تحت أكثر من سماء، لكن يظل حنين البشرية للحلم الأول قائما، أن يطير الإنسان نفسه لا الآلة، لذا لم يكن هناك بد من الطيران بالخيال، في الأدب، والفن، ها هي لوحاته تجول بنا في ربوع مصر بين أقصاء الشمال والجنوب، والشرق والغرب، يضع بديلا للإنسان وجناحيه في سماء لوحاته مركبا صغيرًا، يأتي وحيدَا على الأغلب، إلا من رفقة داخله، تبدو كأسرة صغيرة، أو رفقة جواره، مركب آخر أو أكثر، بشراع أبيض أو ممزق، يجمع بينها أنها مراكب مؤنسنة، كمركب صياد حلقت به قبل أن يتركها ويطير. لقد أخذ الرسام المركب الصغير إلى سماوات زارها بالمنطاد، فرأى ما رأى، وسُرَّ بما رأى، فأراد أن ينقل تلك البهجة البصرية لنا، وأن يستعرض بمفرداته الخاصة التي تعيدنا إلى أجواء الرسوم الكلاسيكية التي تعنى بالتفاصيل، فهي لا قدم بقعا لونية أو مساحات مبهمة، وإنما طبوغرافيا حية تكاد تغوص بك إلى كل عنصر فيها، بين البرلس التي رسم بعضا من أجمل مراكبها على مدى سنوات، ليعيدنا إلى سحرها الخاص بغلاف شاف من الهدوء والسكينة، وأسوان في جنوب النهر الخالد، وسانت كاترين أيقونة معالم شبه جزيرة سيناء، والفيوم: إنها رحلة السندباد التشكيلي بين الواحة والمدينة والقرية والوادي.