

تتجاوز تجربة الفنانة السودانية كمالا إبراهيم إسحق حدود التشكيل التقليدي لتصبح حقلًا بصريًا تتقاطع فيه الذاكرة والرمز، والروح الأنثوية بالوعي الجمعي. في أعمال كمالا الفن لا يبحث عن الجمال بقدر ما يستكشف أثره العميق في النفس والمجتمع.
تفيض لوحات كمالا بطبقات من المعنى، حيث تتجاور الأجساد والوجوه المتداخلة والزخارف المستوحاة من الطبيعة والأسطورة في خرائط رمزية تعيد وصل الإنسان بجذوره الأولى. ومن خلال إيقاع الخطوط المتوترة وتكرار الأشكال، تفيض اللوحات بطاقة طقسية تستدعي مشاهد الاحتفالات الشعبية والمجالس الصوفية، في مزج فريد بين الروحاني واليومي والجماعي والذاتي.
تقدّم كمالا عبر تجربتها لغة بصرية تمردية تعيد تعريف الجسد والأنوثة. فالألوان المتأرجحة بين الفاتح والداكن تحمل أثرًا دراميًا كثيفًا، يعكس صراعات الإنسان الداخلية وتحوّلاته الوجدانية. أما التشويه المقصود في الوجوه والهيئات، فهو تعبير عن تشظّي التجربة الإنسانية، لا عن غياب الشكل.
وُلدت كمالا إبراهيم إسحق بأم درمان (1939)، وتخرّجت في كلية الفنون الجميلة بالخرطوم (1963) قبل أن تكمل دراستها العليا في Royal College of Art بلندن. عادت بعدها لتدرّس وترأس قسم التلوين بالكلية نفسها، مؤسِّسةً لوعي جمالي جديد عند أجيال من الفنانين السودانيين. ظلت كمالا فنانة لها موقفها الثقافيً والأخلاقي، عبّرت عنه في ممارستها الفنية ومواقفها الإنسانية، ومنها رفضها وسام الجمهورية الفرنسية للآداب احتجاجًا على الإساءة للنبي محمد ﷺ.
في سبعينيات القرن الماضي، شاركت مع محمد حامد شداد ونايلة الطيب والدرديري محمد فضل في تأسيس جماعة الكريستاليّين (The Crystalists)، التي نظرت إلى الكون كمكعب بلوري تتبدل ملامحه بتبدل زوايا النظر. هذه الرؤية البلورية انعكست في أعمالها من خلال الشفافية، والتشظّي، واستمرارية التحوّل في الشكل واللون، حيث تتبدى اللوحة ككائن حيّ يتغير أمام العين في كل لحظة.
تُعيد كمالا في أعمالها صياغة التراث السوداني؛ تستلهم من الطقوس الشعبية مثل «الزار» حالة وجدانية تجمع بين الحركة والإيقاع والتحوّل، وتستحضر رموز الحياة اليومية النسوية كوشم ثقافي متجدد. بذلك تفتح أعمالها بابًا على عوالم تجمع بين التعبيرية والتجريد، بين الفكرة والإحساس، بين ما يُرى وما يُستشعَر.
لقد أصبحت كمالا إبراهيم إسحق ذاكرة بصرية للفن السوداني الحديث، ومعلمةً ألهمت أجيالًا من المبدعين، ووجّهت بوصلته نحو تجريب أكثر حرية وصدقًا. أعمالها تثير أسئلة حول الغموض والوضوح، بين التجريد والتشخيص، وتؤكد أن الفن الحقيقي لا يُغلق معناه، بل يظل مفتوحًا على الدهشة والتأمل.
كمال هاشم. اكتوبر 2025