أحداثأدب

المومياوات المصرية: سر الخلود بين العلم والفن والدين

 دكتور حسين عبد البصير

لطالما سعى الإنسان منذ بداياته للحفاظ على جسد من يرحل عن هذا العالم. فكرة الموت وفقدان الأحباء كانت تثير لديه الخوف والحزن، لكنها في الوقت ذاته كانت تدفعه للتأمل في معنى الحياة، وفي إمكانية استمرار الروح بعد الرحيل. عبر آلاف السنين، حاول الإنسان إيجاد طرق لإبطاء التحلل وحفظ الجسد، لكن هذه الطرق كانت مختلفة تمامًا باختلاف البيئة والمعرفة والمعتقدات الدينية.

في قلب جبال الألب، قبل خمسة آلاف عام، عاش أوتزي، رجل الجليد، الذي أصبح اليوم رمزًا للتحنيط الطبيعي. لم يكن أوتزي محنطًا بمعنى الكلمة، ولم يكن أحد يعرف عن علم التحنيط أو الفن الدقيق للحفاظ على الجثث. هنا الطبيعة هي التي لعبت دور المحنّط. برد الجبال وجفاف الهواء، وقلة البكتيريا، كلها عوامل ساعدت على إبقاء جسده شبه كامل لآلاف السنين. لم يكن هناك قصد بشري، ولم يكن هناك طقس أو فلسفة، لكن الجسد بقي شاهدًا صامتًا على قدرة البيئة على حفظ الحياة بعد الموت.

على نحو آخر، نجد في جنوب شرق آسيا بقايا مدخنة لممارسات تحنيطية ابتدائية. قبل نحو 10 آلاف إلى 12 ألف سنة، قام البشر القدماء بتجفيف جثث موتاهم عبر دخان نيران منخفض الحرارة وربط الأطراف في وضع القرفصاء. هذه الطريقة لم تمنحهم مجرد حفظ الجسد؛ بل كانت خطوة أولى في فهم كيفية إبطاء التحلل. الأحشاء لم تُنظف، الأنسجة لم تُحفظ بالكامل، ولم يكن هناك أي طقس ديني أو فلسفة تحكم هذه العملية. النتيجة كانت غالبًا هياكل عظمية تحمل آثار التجفيف والدخان، تعكس إدراك الإنسان القديم لقدرة الطبيعة على حفظ الجسد، لكنها تبقى تجربة بدائية مقارنة بما سيأتي لاحقًا في مصر.

أما مصر القديمة، فهنا تبدأ القصة الحقيقية للتحنيط. مصر لم تكتفِ بالمحافظة على الجسد، بل جعلت من التحنيط علمًا وفنًا وممارسة دينية متكاملة. الفراعنة أدركوا أن الجسد ليس مجرد هيكل عضلي وعظمي، بل بيت الروح، ومفتاح الحياة الأخرى، وأن الحفاظ عليه يضمن استمرار الهوية بعد الموت. لذلك، بدأ المصريون بتطوير خطوات دقيقة ومعقدة. إزالة المخ عبر الأنف، إخراج الأحشاء، التجفيف بالنطرون لمدة طويلة، دهن الجسم بالزيوت والراتنجات العطرية، لف الجسد بعشرات الأمتار من الكتان، ووضع الأقنعة والتمائم الرمزية، كلها خطوات دقيقة تعكس إدراكهم العميق للعلوم الطبيعية والروحانية معًا.

كانت البيئة المصرية صديقة للتحنيط. حرارة الشمس، وجفاف الصحراء، والهواء الساخن، كلها عوامل ساعدت على بقاء الجسد لفترات طويلة، وهو ما لم تحظ به المناطق الرطبة في العالم. لكن نجاح التحنيط لم يكن مجرد بيئة، بل كان مؤسسة متكاملة تضم كهنة متخصصين، وورش عمل مجهزة، ومواد كيميائية فريدة، ونصوصًا دينية تحكم كل خطوة. كتاب الموتى ونصوص الأهرام لم تكن مجرد كلمات؛ بل كانت تعليمات دقيقة لكيفية التعامل مع الموت، وكيفية حماية الجسد وإعداد الروح للخلود.

المومياوات الملكية، مثل توت عنخ آمون ورمسيس الثاني وسقنن رع وأحمس، لم تكن مجرد جثث محفوظة، بل تحف فنية وروحية. الذهب والزينة، الأقنعة، الراتنجات، الطقوس، كلها جعلت من المومياء قطعة فنية تحمل بين طياتها الفلسفة والدين والتقنية والفن، فتتحول الجثة إلى رمز خالد للجمال والمعرفة والخلود.

لكن لماذا نالت المومياوات المصرية هذه الشهرة؟ السبب بسيط: الدمج بين العلم والفن والدين. في أي مكان آخر، كان التحنيط إما صدفة طبيعية أو تجربة بدائية محدودة. أما في مصر، فقد أصبح التحنيط علمًا دقيقًا، وممارسة فنية، وطقسًا دينيًا، وفلسفة شاملة. هذا الجمع جعل المومياوات المصرية الأكثر دقة، والأكثر استمرارية، والأكثر جمالًا، وأكثر تأثيرًا في التاريخ والثقافة الإنسانية.

عبر آلاف السنين، واصل المصريون تطوير مهارات التحنيط. من عصر ما قبل الأسرات مرورًا بالدولة القديمة والوسطى والحديثة، وحتى العصور المتأخرة والرومانية، لم يتوقفوا عن تحسين أساليبهم. وبهذا استمرت المومياوات المصرية كرمز خالد للحضارة، وأصبحت نافذة لفهم الإنسان القديم، وعلاقته بالموت، وفهمه للخلود.

المومياوات المصرية ليست مجرد بقايا، بل حكاية كاملة عن الإنسان، عن دينه، عن معرفته، عن فنه، وعن المجتمع الذي عاش فيه. ومن هنا تأتي قوتها الساحرة، ومن هنا نفهم لماذا ما زالت تبهر العالم حتى اليوم، وتحمل أسرارًا عن الموت والحياة الأخرى، تجعلنا نفكر في الخلود، وفي قدرة الإنسان على تحويل الموت إلى فن، والعلم إلى رمزية، والفناء إلى خلود.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى